“كل شيء للسودانيين، إنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، لا شيء ناتج على طول فكرة واجتهاد وتخطيط ودراسة وتمحيص”.
أعلاه، تحوير لعبارة أوردها الجاحظ في “البيان والتبيين”، يقارن فيها بين العرب والعجم، فنسبت أنا الماثل هنا، ما نسبه صاحب البيان والتبيين للعرب إلى السودانيين، مع إضافة بعض الشمارات اللغوية الحداثية.
وفيما أنا على هذه الحال من التحوير والتأويل عنّ لي أن أصف حكومة التسوِّية السياسية الانتقالية بجمهورية (قحت)، وإن كان المُكون العسكري في مجلس السيادة هو الأولى، كونه الفاعل الأعظم في الجمهورية السودانية الجديدة، لكن لأنه جسم غير واضح المعالم وغامض بعض الشيء، كما أنه مُرٌ ومذاقه حنظلي، قررت تجاهله وسلب نِسبة الجمهورية منه، ونزعها عنه، ووضعها على كتفيّ (قحت) وكاهليها، تضغط عليها فتخر، وربما (تهر)، ولكي لا يذهب بعض القراء المتآمرين على المعنى؛ بعيداً، فإن تهرّ هنا، بمعنى (تئن)، وليس بالمعنى الدارج في لغة السودانة،، فـ(قحت) لا تفعل ما يجعلنا نسد أنوفنا – حاشا لله – ولكي أقرب المعنى أكثر، أحيلكم إلى معلقة عمر بن كلثوم، إذ قال من باب الفشخرة (العربية) المعهودة، يتفاخر بقومه: ” وقد هرّت كلاب الحي مِنا/ وشذّبنا قتادة من يلينا”، أي صاتت الكلاب دون أن تنبح (بما يشبه الزمجرة عند الأسد، وليس الزئير، فحت لا تنبح ولا تزأر، إنما تهر وتزمجر، والحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، كما كان يردد السلف غير الصالح من الكيزان والسلفيين.
نعود، لجمهورية (قحت)، التي أراها ذاهبة لتنال لقب (جمهورية الــShow) الديمقراطية، بعد أن أطاح الثوار بجمهورية (الشو) الكيزانية الاستبدادية، فبينما الواقع يكاد ينفجر بغلظة المعيشة، والتناحر العرقي وتنامي البطالة واستطالة ظلال أعمدة الكهرباء والأبنية لاستقبال المزيد من العاطلين، فيما الكيزان الذين يعتبرهم الشعب السوداني السبب الرئيس في معاناتهم لا يزالون يسرحون ويمرحون وينشرون الفتن العرقية من بورتسودان إلى الجنينة ويحركون ظل البطالة والفاقة والفقر ليتسع للمزيد، يفعلون ذلك وهم جالسون على أرائك وثيرة في قلب جمهورية قحت، لا ترتعش لهم فرائص ولا ترتعد أوصال، بينما (القحتيون) في غيهم سادرون، يحتفون بهوامش الأحداث ويغفلون على مراكزها، وعوضاً أن يحدثونا عن فحوى لقاء كاودا بين حمدوك والحلو، يوغلون في تدبيج النصوص المادحة للابتسامات الفاغمة الناصعة الصادرة عن قلبيّ رئيس الحكومة وزعيم المتمردين، ويرجون الصورة هذه كمؤشر قوي يشي بأن السلام تحقق، بمجرد أن صورة ما ضاحكة مستبشرة، يميل فيها حمدوك يساراً والحلو يميناً فتتلاحم أكتافهما ويبسم هذا ويبسم ذاك، فيأتي السلام، وتضج جمهورية قحت بالفرح وتستغرق في الأحلام وتمتلك المستقبل المزدهر، وشكراً حمدوك.
بالعودة، إلى أنين البلاد، وحاجتها الماسة والملحة لحلول صارمة القسمات، جادة التقاطيع، فإن حل المسألة الاقتصادية يستوجب أولاً صنع السلام والأمن، بتوقيع اتفاقات مُحكمة مع حركات الكفاح المسلح، دون جعل الابتسامات المتبادلة بنداً من بنودها الأساسية، فتلك لا تعني شيئاً، فقد تبادلها قرنق مع علي عثمان ومناوي مع مجذوب الخليفة، وموسى محمد أحمد مع مصطفى عثمان إسماعيل وعبد الواحد محمد نور مع عبد الله حمدوك، ولم تغن عنهم شيئاً.
وعلى هذا النحو، فإن حل الزعازع القبلية في الشرق والغرب، لا يحتاج بداية، إلاّ لصرامة القانون، وأول ذلك قرار يتسق مع قانون تفكيك نظام الانقاذ، يتم بموجبه حل الإدارات الأهلية ومساءلتها قانونياً عن دورها في تأجيج ومفاقمة الأوضاع، ثم الذهاب إلى الحلول الاستراتيجية المتمثلة في التنمية المتوازنة والتمثيل المتوازن وتحقيق دولة المواطنة القائمة على الكفاءة الشخصية والكسب الفردي.
ثم، بعد، أيها الجمهورية القحتية، فإن الوقت للعمل الجاد، لا لـ (الشو) غير المثمر، فإنما أهلك الذين سادوا من قبلكم، إنهم كانوا (يهرون) يوم كريهة ويهللون ويكبرون دونما إنجاز أرضي أو سماوي، حتى جاءتهم الصاخة وحلت بهم الطامة الكبرى، فأضحوا يولولون.
صحيفة اليوم التالي