حسين خوجلي يكتب: إن العدالة بالقطاعي ما عادت تجدي!

ذهبت كل محاولاتي ادراج الرياح في اقناع إثنين من الأصدقاء وزملاء الدراسة أن يظلا معي في قسم الفلسفة رغم اهتماماتهما الأدبية العميقة. فقد ذهب أحدهما الى دراسة اللغات دامغاً الفلسفة بعبارة عامية ساخرة (علماً مسييييخ)، أما الآخر فقد إختار دراسة القانون وكانت حجته أن الفلسفة تفضي إلى قلة الرزق وقلة اليقين وكثرة الشك، وهو ليس له صبر على الفاقة ولا حتى صبر على رهق الفكر.

وتركوني كالسيف وحدي ما بين الشك الديكارتي وشك الغزالي الحميد وهو شك ولله الحمد والمنة دون اليقينيات بكثير. ومما انتبهت له مبكرا أن العقل السوداني محب للحكايات والمنوعات، ولا يميل لتعقيدات الفكر ولا مصطلحات القضايا والمنطق الكلاسيكي منه والرمزي. وللراحل صلاح احمد ابراهيم عبارة لطيفة مفادها أن العقل السوداني ميال للحكاية والشعر والغناء لأنه تربية (سهلة وحيشان)، أما القضايا المعقدة فهي أقرب الى ساكني الغرف والصالات التي تشبه مزاج المناطق الباردة.

وأذكر أنني اقترحت على استاذ الفلسفة المعاصرة لكيلا يتسرب الزملاء لوازا من القسم، بان تكون الدراسة بمنهج القضايا لا بالمنهج التاريخي في التعلم. لأن البداية بسقراط وافلاطون وارسطو تدعو للملل الا للمختص والمتعمق وهو طريق صعب على الطلاب والمبتدئين. وفعلا فقد قدر الدكتور ملاحظتي وبدأ تناول بعض القضايا التي تهم العقل المعاصر بعيدا عن السرد التاريخي التقليدي. ولادخال المنطق والمعاني والافكار في عقولنا فقد توسلنا بالحكايات النفيسة التي يمكن أن نستخرج منها قضايا الجدل والاختلاف المفضي للنتائج العملية.

وقد كانت لنا جلسة شهيرة في نادي الرمل ومنتدى قاعة بحث يختار كل واحد منا حكاية يبتدرها بعنوان وقضية وأسئلة صعبة تصلح للتداول والاجابات الصريحة.

ومن الحكايات الموحية التي وجدتها في كراسة قديمة من ذلك الزمان الأخضر حكاية رواها الشيخ الراحل والاعلامي الشهير علي الطنطاوي. وكنا من المفتونين منذ الثانويات بادائه الاذاعي والتلفزيون وهو افتتان لم نستطع ان نتجاوزه الا بكاتبات هنتر ميد في الفلسفة ومشكلاتها، ومقدمات مصطفى عبد الرازق في الفلسفة الإسلامية، وتوثيق يوسف كرم لتاريخ الفلسفة، والكتابات النقدية في الأصل والمعاصرة للدكتور زكي نجيب محمود. وتظل كتابات الطنطاوي المبذولة للاسلام ولاهله محفورة في القلب والوجدان. وللرجل عين ثاقبة في اختيار هذه الاحداث وله مقدرة على نظمها واستخراج شهدها.

وحكايته هذه قلت في مقدمتها: إننا نعيش عصرا عربيا واسلاميا وافريقيا بل وعالميا راينا فيه كل ازماتنا وكوارثنا فاضحة وواضحة، تكاد أن تتظاهر بعلانيتها وتمشي على قدمين، فنحن فقراء وبين أيدينا الأنهار والأراضي البكر، ونحن ضعاف واذلة، تكاد تتخطفنا الأمم رغم أننا كثر، ولكنها كثرة غثاء السيل.

ونحن مختلفون و متشاكسون وغلاظ على بعضنا مع أن كل الدواعي النظرية والعملية تدعونا إلى الوحدانية والوحدة.

ونحن جهلاء ومتخلفون مع أن ادمغة ابنائنا تصنع مجد أعدائنا مقابل حفنة من الدولارات، أما فوائض ثرواتنا يشتري بها الخصوم ذات العقول المهاجرة، ويبنون بها حضارة ندفع ثمنها مرتين تكاليفها وشرائها دون ان يكون لنا حظ لا من الربح ولا من الرفعة.

قلت في المقدمة الشفاهية: إن أعمارنا واعمار هذه الأمة قد تسربت وها نحن قد هرمنا، وأما هي فقد كادت أن تماثل الأطلال. وهي حالة لا ينفع فيها الامتثال للاسلام بالقطاعي، الحل بالجملة والعاجل. الاسلام الذي يبدأ باماطة الأذى عن الطريق وينتهي باماطة المستبد حتى وإن كان عادلاً.

والسياسة الحقيقية هي ان نبدأ التظاهر على انفسنا قبل التظاهر ضد النظام وتغيير الحاكم، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وايقاف النزيف والحروب يبدأ بالوحدة العربية العاجلة لا الآجلة، منا الأرض ومنهم المال، ومن الآخرين الرجال، وعبر الوحدة يطل الجيش الواحد الذي لا يُقهر الذي يشكل حماية لقيمنا ولموروث الانسانية في الخير والسلام.

حتى العدالة والقضاء والانصياع لها يجب أن ألا يكون (بالمُفرق) بل يجب أن يكون جملة واحدة، عدالة تطال الأكثرية بقاضٍ عادل وقضية ذات مرافعة باهرة نزعن لها وتزعن لها البشرية بالقدوة والاتباع. يقول الشيخ:

نادى الحاجب : يا قتيبة (هكذا بلا لقب)

فجاء قتيبة وجلس ، وهو قائد جيوش المسلمين

قال القاضي : ما دعواك يا سمرقندي ؟

قال : اجتاحنا قتيبة بجيشه ، ولم يدعُنا إلى الإسلام ، ولم يمهلنا حتى ننظر في أمرنا .

التفت القاضي إلى قتيبة .. وقال : وما تقول في هذا يا قتيبة ؟

قال قتيبة : الحرب خدعة ، وهذا بلد عظيم ، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ، ولم يدخلوا الإسلام ، ولم يقبلوا بالجزية .

قال القاضي : يا قتيبة هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب ؟

قال قتيبة : لا .. إنما باغتناهم كما ذكرت لك .

قال القاضي : أراك قد أقررت .. وإذا أقر المدعى عليه انتهت المحاكمة ، يا قتيبة ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل ..

قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند ، من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء ، وأن تُترك الدكاكين والدور ، وأنْ لا يبقى في سمرقند أحد ، على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك !!

• لم يصدّق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه ..

فلا شهود .. ولا أدلة ..

ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة ..

ولم يشعروا إلا والقاضي والحاجب وقتيبة ينصرفون أمامهم .

• بعد ساعات قليلة .. سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو ، وأصوات ترتفع ، وغبار يعمّ الجنبات ، ورايات تلوح خلال الغبار ، فسألوا .. فقيل لهم : إنَّ الحكم قد نُفِذَ ، وأنَّ الجيش قد انسحب ، في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه أو سمعوا به ..

وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم .. إلا وقد خلت طرقات سمرقند ، وصوت بكاءٍ يُسمع في البيوت على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم .

ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم ، حتى خرجوا أفواجاً ، وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددو شهادة :

((أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله )) .

أتدرون من هو القاضي ؟

إنه (( عمر بن عبد العزيز )) .. خامس الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه .

ويظلُ بيت القصيد باهراً فإن الفرق كبيرٌ بين قضاء (الاشتباه) وقضاء (الإنتباه)

الانتباهة

Exit mobile version