رغم الارتفاع الكبير الذي يطاول أسعار السلع الاستهلاكية كافة في السودان، بسبب جشع التجار، والتصاعد اليومي في سعر الدولار الذي تخطى 60 جنيهاً، والذي انسحب على السلع المستوردة على نحو خاص، والمحلية التي يتم استيراد مدخلات إنتاجها من الخارج، لا تزال ثقافة مقاطعة السلع والبضائع والخدمات التي ترتفع أسعارها محدودة في أوساط المجتمع السوداني، الذي يُبدي تذمراً مكتوماً مع أي زيادة تطرأ على سعر أي سلعة.
وأطلقت جمعية حماية المستهلك السودانية أول حملة مقاطعة للسلع الاستهلاكية، في يوليو/ تموز 2012 لمناهضة غلاء السلع عامة، واللحوم على نحو خاص، وتبنت شعار “الغالي متروك”، حيث كان سعر كيلوغرام اللحوم الحمراء حينها 60 جنيهاً والبيضاء الفراخ 16 جنيهاً للكيلوغرام.
وتبنّت الجمعية حملة ثانية للمقاطعة وكانت من نصيب اللحوم الحمراء والبيضاء، قبل نحو عامين، واستمرت أسبوعاً واحداً لوضع حد لانفلات الأسعار واستغلال التجار، وكان شعارها “مقاطعون لشراء اللحوم حتي يشتريها الفقير قبل الغني”.
ونجحت الحملتان في إجراء تحريك طفيف في الأسعار، لا سيما اللحوم، التي انخفضت تلقائياً من 220 ـ 200 جنيه للضأن، و140 جنيهاً للعجالي، بينما قفزت الفراخ من 100 إلى 105 جنيهات للكيلوغرام، لتعاود الارتفاع مرة أُخرى بعد انتهاء الحملات إلى 280 ـ 300 جنيه للضأن والعجالي ما بين 180 ـ 200 جنيه والفراخ 110 جنيهات للكيلوغرام.
ودافع رئيس اللجنة الاقتصادية بجمعية حماية المستهلك السودانية حسين القوني، في حديث لـ”العربي الجديد”، اليوم الجمعة، عن الحملات التي نفذتها الجمعية، مشيراً إلى نجاحها في دفع التجار نحو خفض الأسعار، (رغم عدم وجود رصد قياسي دقيق لمستوى نجاحها)، وتمكنها من تحفيز المستهلكين على تقليل استهلاكهم للسلع التي تتصاعد أسعارها.
وقد أحدثت الحملات تأثيراً على الاقتصاد المحلي، في تقليل كميات الذبائح اليومية واستهلاك اللحوم بشكل عام، وانسحب أثر الحملة على بقية السلع مع تخوف التجار من انتشار المقاطعة وتكبّدهم بالتالي خسائر فادحة، وإحداث ركود في القوى الشرائية.
وقال القوني إنّ “أسعار السلع في فترة الحملتين كانت معقولة، باستثناء اللحوم الحمراء والبيضاء ولم تكن أسعارها بمثل الارتفاع الكبير الراهن، ولذلك ركزت الجمعية على اللحوم، أما الآن فإنّ الزيادة طاولت السلع كافة، وفي وقت واحد، بسبب زيادة الدولار الرسمي والجمركي وفي السوق الموازي، ما اضطرالمستهلكين إلى تبنّي مقاطعة فردية لغالبية السلع، بسبب محدودية الرواتب والتي أعلنت الحكومة أخيراً عن زيادتها اعتباراً من يناير/كانون الثاني”.
وأشار إلى أنّ “تأكيدات الحكومة بتوجهها نحو توطين السلع الغذائية، بإحلال الواردات وتشجيع الصادرات والإنتاج المحلي، لن تتم بالتمنّي بل بالعمل الجاد والتخطيط السليم، لا سيما أنّ السودان تتوافر فيه مجموعة من الموارد الطبيعية غيرالمستثمرة بسبب سوء الإدارة وغياب التخطيط”.
وفرض الغلاء المعيشي الطاحن والأزمات التي يتعرض لها الاقتصاد السوداني، وندرة السيولة والوقود والطحين، والزيادات المضطردة في أسعار السلع، وارتفاع التضخم لأكثر من 72%، الشهر المنصرم، مقاطعة عامة غير معلنة من المستهلكين للسلع الكمالية.
وبقيت المقاطعة خياراً فردياً للمواطن السوداني، يستعين به حينما يريد تقليص قائمة مشترياته من السلع الضرورية.
وتخطت المقاطعة السلع المحلية لتطاول السلع المصرية، إثر الحظر الذي فرضته الحكومة السودانية عليها في سبتمبر/ أيلول 2016، والذي طاول السلع الزراعية (الخضر والفاكهة) ومنتجاتها والأسماك المعلبة ومحضرات السلع الزراعية والمصنعة والصلصة والمربيات والكاتشب ومنتجاتها عبر الموانئ والمعابر الحدودية، والموجودة داخل الحظائر الجمركية الواردة من مصر، بفعل مخاوف صحية من تسببها في الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي لريها بمياه الصرف الصحي.
ولم يفلح رفع الحظرالحكومي عن السلع المصرية، في الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السودان، في إلغاء المقاطعة الفردية للسلع المصرية، بخاصة الخضر والفواكه، مقابل استمراره في شراء الإسمنت (قنا) والزيوت والمنظفات.
أما على الصعيد العالمي، فقد قاطع السودان السلع الدنماركية الواردة عبر الإمارات ومصر، إثر نشر إحدى الصحف الدنماركية عام 2006 رسوماً كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد، وأدت إعادة نشرها عام 2008 إلى إثارة أعمال شغب راح ضحيتها أكثر من 200 شخص في جميع أنحاء العالم.
واستمرت مقاطعة السودان للسلع الدنماركية رغم محدوديتها (الألبان والبسكويت، والحلويات) إلى حين صدور قرار حكومي بإلغاء الحظر، وإعلان البنك المركزي على موقعه الإلكتروني صدور أوامر للمصارف برفعه.
ولا تزال المقاطعة السودانية لدولة الاحتلال الإسرائيلي مستمرة للسلع والخدمات والعلاقات الاقتصادية بشكل عام.
مدير عام قطاع الاقتصاد وشؤون المستهلك لدى وزارة المالية عادل عبد العزيز، قال، لـ”العربي الجديد”، إنّ “سلاح المقاطعة لبعض السلع الذي تتبناه الجمعيات والمنظمات المهتمة بشؤون المستهلك، حقق نجاحاً كبيراً في بعض الدول، بخاصة المغرب، والتي قاطعت منتجات الألبان والبيض إلى أن توقفت مبيعات الشركات العاملة في المجال وتراجعت أسعارها وجددت مقاطعتها آنياً للطحين ولجأت إلى بدائل أخرى”.
ولفت إلى تبني جمعية المستهلك السودانية حملة مواجهة ارتفاع أسعار اللحوم تحت شعار “الغالي متروك”، وحققت نتائج مقدرة لكنها لم تستمر لفترة طويلة.
وقال وزيرالدولة الأسبق في وزارة المالية عز الدين إبراهيم، لـ”العربي الجديد”، إنّ “المقاطعة سلاح قديم ومعروف (رخصوها بالترك)”، مشيراً إلى أنّ السودان “تبنى حملات مقاطعة للحوم وبعض السلع، إلا أنها لم تستمر طويلاً لعدم قدرة المستهلك على المضي في المقاطعة”، داعياً إلى “البحث عن بدائل للسلع التي ترتفع أسعارها كالخبز مثلاً بالأرز، والوجبات السودانية التقليدية (القراصة والعصيدة) واللحوم بالعدس”.
وأشار إلى “نجاح سلاح المقاطعة لفترة وجيزة، وليس بشكل كامل في خفض الأسعار”، مبيناً “قلة أثرها في الاقتصاد المحلي باعتبارها معالجات جزئية لمشكلة متجذرة”.
العربي الجديد