كان الراحل حسن محجوب مصطفى نائب دائرة بربر عن حزب الأمة الشهير (بالأرباب) رئيساً لتحرير جريدة النيل الناطق باسم الأنصار وحزب الأمة، وكان الرجل كاتباً مجيداً وخطيباً مفوهاً وراوياً للشعر القومي والمستطرف السوداني ونسابة. وكان مكتبه مقراً دائماً للجيل الثاني من الصحفيين، يجدون عنده الخبر والتعليق والأسرار والأفكار والمُلحْ والنفائس.
كان الرجل كريماً ومبذولاً للناس وقد شغل فيما بعد وزارة الحكومات المحلية في الديمقراطية الثانية. وله مواجهة لطيفة مع السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء الشاب، فقد كان الأرباب يرى أنه أحق بوزارةٍ سيادية في حكومة حزب الأمة الائتلافية مع الاتحاديين، غير أن السيد الصادق إعتذر له بلطف قائلاً: (انتو ياشيخ العرب ما خلاص كبرتو)، فرد الأرباب بعبارة ساخرة سارت مسرى الأمثال (والله حكايتنا حكاية معاكم يا أولاد المهدي جينا زمان لأبوك السيد الصديق نستوزر قال لينا إنتو صغار هسع جيناك انت قلت كبرتو).
ومن ذكرياته السياسية ما يشبه الراهن الآن فبعد عملية التسليم والتسلم ما بين (البك) عبد الله خليل والفريق إبراهيم عبود وقد مضى على الحكم النوفمبري أكثر من ستة أشهر. وفي ليلة ليلاء ما بعد الواحدة صباحاً توقفت سيارة الرئاسة أمام منزل عبد الله خليل بأم درمان وترجل منها الفريق عبود وكان (البك) رغم خطورة شخصيته وموقفه السياسي يترك باب داره مفتوحاً على مصراعيه ثقةً في نفسه وفي شعبه دخل عبود وقابله الحارس وأدخله الصالون وأيقظ عبد الله خليل، فجاء منزعجاً ومرحباً بالفريق عبود ففاجأه عبود بلا مقدمات (الآن يا سعادتو أنا محاصر بحوادث الجنوب، والأزمة الإقتصادية، وإنقلابات الجيش، ومؤامرات الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) وأضاف في قلق بعاث (إنت يا سعادتو البلد دي كنت حاكمها كيف؟) فجلجل عبد الله بضحكة مدوية أيقظت أهل الدار قائلاً: (أنا يا عبود لو كنت عارفها بتتحكم كيف كنت سلمتك ليها؟!!)، وتعانق الرجلان بضحكة مشتركة وغادر عبود المنزل العريق ولم يعاودها مرة أخرى، إلى أن سلمها إلى حكومة جبهة الهيئات بقيادة سر الختم الخليفة عام 1964 عقب ثورة أكتوبر المجيدة.
وفي ذات السياق فإني أنصح الرئيس برهان بزيارة زنزانة المشير عمر البشير بكوبر لأداء مهمة التسليم والتسلم الوطنية، فالرجل ينطوي على أسرار سيادية بالغة الخطورة لا يمكن أن يبوح بها أو يكشفها لغير رئيس الدولة. وحجتي في ذلك أن كل الدول المحترمة وذات السيادة والتقاليد تفعل ذلك سراً أو جهراً. ورغم قيام جهاز الأمن في مايو بإغتيال الشهيد عبد الإله خوجلي في شجرة الأمن الشهيرة بعد أحداث إنتفاضة ستة وسبعين المسلحة المباركة، إلا أنني دافعت عن عودة المشير جعفر نميري للسودان وقلت في برنامج الإتجاه المعاكس بقناة الجزيرة: إنه من العيب الوطني أن تترك دولة عريقة كالسودان رئيسها السابق رهينة للخارج فمهما إختلفنا معه، يظل هنالك محاصراً بوحشته وضعفه ومرضه وتقادم سنه وقيده الذهبي بالقاهرة، فنميري كما هو معلوم صندوقٌ أسود يختزن آلاف الأسرار التي يجب أن تُملك لشعبه ولحكومته وليس لأجهزة التخابر الأجنبية، التي تعرف كيف تعتصره وتستخرج منه معلومات لا تقدر بثمن.
عزيزي الأخ الرئيس البرهان نحن حريصون على مخزون الأسرار العسكرية و الأمنية الداخلية والخارجية، والأسرار الاقتصادية والاجتماعية التي يمتلكها المشير البشير. فهو أيضاً مثل أسلافه خزانة أسرار لمدة ٣٠ عاما يجب أن نحتفظ بها للاستفادة منها حاليا ومستقبلا خاصة وأن الراهن المعقد الآن يحتاج لهذه الشفرة.
أما التعليق الذي يشابه تعليق عبدالله خليل لعبود فلن نسأل عنه وكذلك لن نسأل عن الكلام والابتسامة حين المغادرة والوداع متأدبين بحكمة أحمد بن الحسين المتنبي:
مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ
أَنا أَهوى وَقَلبُكَ المَتبولُ
كُلَّما عادَ مَن بَعَثتُ إِلَيه
غارَ مِنّي وَخانَ فيما يَقولُ
أَفسَدَت بَينَنا الأَماناتِ عَيناه
وَخانَت قُلوبَهن العقولُ
وَكَثيرٌ مِنَ السُؤالِ اِشتِياقٌ
وَكَثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليلُ
حسين خوجلي