* الزائر لبلادنا للمرة الاولى سيكتشف أن الشعب الذي بهر العالم بثورته العظيمة وسلميته ورقيه وصموده الفريد وشجاعته الفائقة وتضحياته الغالية وشعاراته الراقية واشعاره البديعة ورسومه الزاهية وابداعه الجميل، يختلف تماماً عن الشعب الذى يمارس الفوضى بكل صورها وأشكالها وأنواعها في احياء واسواق وشوارع الخرطوم .. مِن رمي قشر الموز وزجاجات البلاستيك الفارغة ومناديل الورق المستعملة واعقاب السجائر من نوافذ العربات على طريق الاسفلت .. إلى قطْع الاشارة الحمراء والدخول الخاطئ والوقوف في منتصف الطريق لانزال والتقاط الركاب وعدم احترام قواعد المرور وسلوك الكل وكأن الشارع ملك حر لهم ورثوه من جدودهم ولا يحق لاحد غيرهم ان يسير عليه، وإذا تجرأتَ وأظهرتَ أية علامة احتجاج .. علامة فقط ولم تنطق بكلمة واحدة، انصبت عليك اللعنات والشتائم بأعلى الاصوات بدون مراعاة لفرق العمر او الاخلاق او المشاعر العامة!
* والمشاه لا يحلو لهم عبور الطرق الا في الصواني والتقاطعات، لا فرق بينهم وبين المعيز عندما كانت تتجول بحرية في شوارع الخرطوم، ولا وجود لمناطق عبور او خطوط مشاه، بينما شرطي المرور يتفرج ولا يعين احداً على العبور حتى أطفال وتلاميذ المدارس، والشارع نفسه يئن من الاخاديد والحفر والبلاعات التي تستطيع ان تبلع مدينة بأكملها وليس عربة ملاكي صغيرة الحجم، كما يستطيع أي شخص نصب صيوان عزاء او زواج وغلق الطريق في أجعص شارع بدون ان يجرؤ احد ولا حتى مدير عام شرطة المرور على سؤاله، ومن الطبيعي جداً ان تخرج من طريق يغلقه صيوان، لتجد انك دخلت في طريق تغلقه الانقاض او ينتهي بخور كبير لتبدأ رحلة البحث من جديد عن طريق للخروج من متاهة علي بابا السوداني، الذي يمكنه ان يضحي بنفسه ويذرف كل دمه بسهولة شديدة من اجل إسقاط الحاكم الظالم، ولكن من المستحيل ان يضحي بدقيقة واحدة ليُفسح الشارع لغيره، او يذرف نقطة عرق واحدة ليزيح كوم تراب او يدفن بركة ماء صغيرة أمام منزله!
* قبل بضعة أيام كنت أسير بعربتي على شارع المك نمر بالخرطوم متجهاً نحو الجنوب في اول ساعات الليل، فسمعت صفارة عربة الاسعاف، وعندما التفت رأيتها على بعد خمس عربات ورائي، ولدهشتي لم أر أية عربة تفسح لها الطريق، وعندما اتبعت التعليمات المعروفة بإخلاء الطريق والوقوف على يمين الشارع، وقعتُ في حفرة عميقة وانفجر اطار العربة الأمامي، وتصادف ذلك مع مرور ثلاثة او اربعة افراد من شرطة المرور لم يسألني أي واحد منهم إذا ما كنتُ بخير دعك من مساعدتي، ولولا أحد المارة الذي طلبتُ منه المساعدة فاستجاب مشكورا، لكنت قابعاً في الحفرة حتى هذه اللحظة !
* حكيت هذه القصة لصديق، فحكى لي قصة قريب له سائق حافلة ركاب، دخل في سباق مع عربة اسعاف كانت تطلق صفارة الانذار وتسير بسرعة كبيرة، واستطاع الفوز عليها بسهولة، بينما ركاب الحافلة في حالة وجوم تام لا يدري احد هل بسبب الخوف ولحظات الرعب التي تشبه مشاهد افلام الآكشن الامريكية، أم الإيمان الزائد بالقضاء والقدر الذي يجعل السودانيين يتنازلون ببساطة شديدة عن حقوقهم ويعتبر أغلبهم المطالبة بها عار لا يمحوه الا الدم .. في اليوم التالي جاء الى موقف الحافلات وفد من المستشفى التي تتبع لها عربة الاسعاف يسأل عن سائق الحافلة بعد التقاط رقمها، واخبره اعضاء الوفد بأنه مطلوب لمقابلة مدير المستشفى لأمر في غاية الاهمية، وعندما ذهب معهم قال له المدير انه معجب بشجاعته ومهارته في القيادة ويريد منه العمل كسائق اسعاف، بدلا من أن يقتاده الى شرطة المرور او يؤنبه على تهوره وتعريض حياة ركاب الحافلة وعربة الاسعاف للخطر ويعطيه درساً في كيفية التصرف عند سماع صفارة الاسعاف في الشارع .. تخيلوا الى اين وصل بنا مستوى الفهم، المكافأة على الأخطاء وتعريض حياة الناس للخطر !!
* الفوضى لا تقتصر على الشارع فقط، وانما توجد في كل مكان آخر.. في العمل، في السوق، في الدكان، في الحى في المنزل، بما يتناقض مع الثورة العظيمة التي قمنا بها، ويشكك في أحقيتنا بها، ويؤكد انَّ في نفس كلٍ منا (على بابا) .. أو (كوز) كبير، لن يصلح حالنا إن لم (ندوسوا دوس) ونتخلص منه، كما فعلنا مع الكيزان الصغار !
مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة