كانت لنا في نادي الرمل الذي كان يضم مجموعة من أدباء وشعراء الجامعة جلسة أسبوعية بعنوان “الاشراقات الفكرية للحكايات العربية”. وقد كنا نكلف كل عضو من أعضاء النادي أن يختار لنا حكاية تكون لها ظلال فكرية بجانب الامتاع والمؤانسة.
وأذكر انني اخترت مرة حكاية كانت حديث النادي لفترة طويلة بل كانت المجموعة في كل مرة تستخلص لها مغازٍ وشروحات. فقد قصصت عليهم أن تاجراً من أهل بغداد في العهد العباسي الثاني، كانت له جارية فائقة الحسن يتلفت لها القلب وتتوله بها العين كما يقول الشريف الرضىي، وكانت حين تخرج للسوق لقضاء اغراضها يلتف في طريقها عدد من صبيان بغداد يغازلونها بالبرئ من الأقوال والعبارات وأشعار النسيب.
ولما رأى التاجر مداوتهم على هذه الفعلة المستهجنة خاف عليها من المواقعة في الطريق وهو ما نسميه الآن بالتحرش الغليظ والاغتصاب، ولم تنفع معهم كل وسائل النصح والوعظ والتحذير والتلويح بالمقاضاة. وقد هداه تدبيره ذات مرة أن يصنع لهم وليمة ليعرف من هو العاشق العذري ومن هو الآثم الخفي مد لهم الطعام والشراب وبدأ يستدرجهم بلطيف الكلام، فلما رأى في أعينهم الرضا، وظن فيهم ظن البوح والصراحة قال: أراكم شغوفين بجاريتي وأنتم تعلمون أنها صبية والصبيات يحببن الحياة. وأنا اريد ان أختار من بينكم صاحب باءة وفحولة، فحدثوني ما في أنفسكم من قدرة. فظلوا يزايدون أحدهم يقول أنه سوف يتغشاها ليلا ونهارا ولا يغادر الدار ابدا، وبعضهم يتحدث عن رغبة تتجاوز أوقات الصلاة، وظلوا يزايدون وهو ينظر لهم في لا مبالاة واخيراً جاء دور أحدهم وكان صاحب صحة وجمال فقال بثقة: إني والله ساعامل جاريتك معاملة الكرام الظرفاء فلي معها ليلتين في الأسبوع، أقدمُ بين يديها الفاكهة والعطر والهدايا واسِّرُ في أذنها شيئا تلذ به. وقبل أن يكمل حديثه كانت المفاجأة عظيمة، حين وثب التاجر وأمسك بتلابيبه وأطبق على عنقه حتى تقطعت أنفاسه صائحا انت والله الفاسق الوحيد بينهم! وما هؤلاء الصبية الا محض عشاق أغرار، وجره جراً الى قاضي المدينة مداناً بالاعتراف والنية المبيتة.
وفي المرافعة التي قدمتُها أن اغلب الفقهاء في السياسة الشرعية يرجحون تولية الفاسق القوي من التقي الضعيف، ويقولون تبريراً شائعاً أن الفاسق فسقه على نفسه، وقوته مع الجماعة أما التقي الضعيف فإن تقواه على نفسه وضعفه على الجماعة، مع ان الأمة ما افتقدت يوماً التقي القوي الأمين.
ومما يؤسَف له إننا في السودان نكل الأمر دائماً إما للتقي الضعيف أو للفاسق الضعيف أو للعاشقين الذين رغم اشواقهم لا يعلمون شيئا في أمر تدبير الاقتصاد والسياسة والاجتماع مثل أصحاب الجارية البغدادية، ودائما ما يتجاوز نظرنا الكليل التقي القوي والفاسق القوي فهؤلاء لا يفكر فيهم حزب ولا تيار. فانظروا للعالم العربي والاسلامي فهو يعج بالعشاق الجهلة الكذبة رغم أن الشعب كله من البحر الى النهر وعبر اقطار العرب والعجم يبحث عن الفاسق صاحب الخبرة والفكرة ولو في النساء. أما الرجال فحظهم ما ترونه من القهر والفقر وشح المعطيات، والسودان بالطبع ليس استثناءً.
عزيزي القاريء اذا عنت لك رؤية جديدة وطريفة حول الحكاية فاحتفظ بها للبرلمان الشرعي بعد الانتخابات التي باتت وشيكة، أو أبعث بها للمجلس الأعلى لقوى التسليم والتسلم.
حسين خوجلي