تبقى الحقيقة التي لا تقبل القسمة على أيَّة مُجادلة أنه لولا الضائقة المعيشية التي أحكمت قبضتها على السواد الأعظم من الشعب السوداني (الفَضَل)، لما ذهبت (الإنقاذ) إلى (مزبلة التاريخ)، والأدلة على ذلك كثيرةٌ، لكن يبقى أهمها (شرارة) عطبرة التي (أوقدها) تلاميذ المدارس عندما فشلوا في شراء (ساندوتشات) الفول والطعمية!!
لكن الأسئلة التي نبحث لها عن إجابات عبر هذا التحقيق هي: ثم ماذا بعد نجاح الثورة؟ هل حقَّقت (حكومتها) تطلُّعات (الشعب) الذي أطاح بـ(الإنقاذ)، على الأقل في ما يلي المسألة الاقتصادية؟ وما هو المَوقف الآن؟ وما المآلات التي يُمكن توقُّعها في حال مَضَت الأمور على هذا النحو؟ وغير ذلك من استفهامات نَسعى للإجابة عليها عبر السطور التالية:
معيشةٌ ضنكا!!
“محمد النور” رب أُسرة، مع طلوع كل شمس تنتظره قائمة مطلوبات لا تعرف التأجيل مُطلقاً، تبدأ بالسُّكَّر لشاي الصباح، وتمُرُّ بالمصاريف الدراسية لأطفال لا يُؤمنون بـ(نظرية الأعذار) ولا تنتهي بقائمة (قُفَّة الملاح)!! “محمد” قال لـ(السوداني) إنَّ المكتوين بنار (المَعيشة) لا يَهمّهم نظام الحُكم أو شكله أو (اللون السياسي) للمُمسكين بدفَّته، بقدر ما تهمّهم (المعايش)، مُشيراً إلى أنّه في هذا الصدد فقد ازدادت معيشة الناس (ضنكا) الآن – أي في ظل حكومة الثورة – بدليل أنّ أسعار كل السلع ترتفع على مدار الساعة وليس اليوم، داعياً الحكومة للسّيطرة على الوضع قبل فَوات الأوان، وأضاف: مُشكلة المواصلات ازدادت تعقيداً، صُفُوف الخُبز لم تَختفِ، وفي الأساس الثورة قامت من أجل هاتين المُعضلتين.
في انتظار الحسم والحزم
كل المُواطنين الذين تحدَّثنا إليهم، عبَّروا عن استيائهم الشديد من الوضع الاقتصادي الحالي بعد أن استبشروا خيراً بالتغيير الذي أعقب ثورة ديسمبر المَجيدة التي أطاحت بالنظام الفاسد السابق، مُجمعين على أنّه قد دمَّر اقتصاد السودان، لكن الحكومة الحالية لم تضع حتى الآن خُطة تطمئن الشعب بأن ثمة انفراجاً سيحدث قريباً.
من ناحيته، نصح رئيس تُجّار الجملة بأم درمان أحمد النو، الحكومة الحالية بضرورة التشاوُر مع جهات الاختصاص لمَعرفة أسباب ارتفاع الدولار ووضع حَدٍّ لصُعوده المُتواصل. وأضَافَ في حديثه لـ(السوداني) أنّ الجهاز التنفيذي مَطلوبٌ منه (الآن.. الآن) سَن قوانين صَارمة فيما يلي التّعامُل مع الدولار وتداوُله بالأسواق، ولفت إلى أنّ الحكومة حتى الآن لم تشرع في أيِّ تغييرٍ فيما يلي الاقتصاد ومُعالجة الأزمات المُستفحلة، مُوضِّحاً بأنّ أغلب المُواطنين لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم من السوق بسبب ارتفاع السلع وتدني قيمة الجنيه، وأشار إلى الآن الحكومة لم تجتهد في ضبط الأسواق، ولا بُدّ من الرقابة على الأسواق وتحديد سعر لكل سلعة، وطَالب النو وزارة التجارة واتّحاد الغُرف الصناعية والتجارية واتحاد أصحاب العمل المُكُوث سَوياً والتشاوُر لمعرفة الخلل لوضع حُلولٍ اقتصادية جذرية.
اعترافٌ وتباشيرٌ
واعترف الناطق الرسمي باسم الحُرية والتّغيير وجدي صالح بوجود فوضى في الأسعار وأزمة مُواصلات، وقال لـ(السوداني): لا بُدّ من السعي لحلول جذرية للمشكلات الاقتصادية، مُطالباً بالعمل سوياً مع الجهات ذات الصلة ليحس المُواطن بالتغيير، وأرجع زيادة الدولار الحالية لمُضاربات يُمارسها التجار، مُشيراً إلى أنّ الأيام المُقبلة ستشهد هُبُوطاً في الدولار، لأنّ الحكومة تعمل بكل جدية من أجل تحقيق هذا الهدف في فترة لا تتجاوز الشهرين.
مُطالبة بالشفافية
ويقول رئيس الغرفة التجارية حسن عيسى لـ(السوداني)، إنّ الوضع الاقتصادي الحالي صَعبٌ جداً وحرجٌ ويحتاج لمُعالجة وشفافية، ولفت بأنّ المُواطن في حيرةٍ من أمرهِ عن ماذا يفعل؟ إذ لا بُدّ من تَحكيم الوضع الاقتصادي والرجوع للرقابة على السلع وتحرير أسعارها والاِنفكاك من فكرة تحرير السعر وتَخفيض سِعر الدولار الرسم وتقنين الاستيراد حسب الحاجة بواسطة الإحصاء، وقال حسن إنّ زيادة الرواتب وأسعار السلع مُحرّرة سوف تؤدي إلى “نكبة” على المُواطن وخاصة أصحاب الرواتب، ولا بُدّ من أن يحكموا السوق وإلا سوف تكون هنالك طامة كبرى حال استمرار هذا الوضع، وتوقّع حُدُوث ثورة غير ثورة الجياع التي قامت من قبل.. سوف يكون هنالك نهبٌ واستغلال لمُمتلكات الفرد.
صعوبة الحُكم
في ذات السياق، قال نائب رئيس جمعية حماية المستهلك السودانية والمستشار الاقتصادي حسين القوني، إن فترة الحكومة الحالية بسيطةٌ، ليست من السهل الحكم عليها، ويحتاج الاقتصاد إلى وقتٍ ومُتابعةٍ، ولا بُدّ للحكومة من تغيير السياسات والعمل بخَطوات جديدةٍ، خاصة والمُواطن صارت طُمُوحاته أكبر، ولكن لا بُدّ من منحهم الوقت الكافي حتى تعمل الحكومة.. ولفت إلى أنّ الحكومة الحالية تعمل في الاتجاه الصحيح وعليها أن تعيد علاقاتها مع الدول والمُنظمات الإقليمية والدولية لتحصل على دُعُومات وقروض تستفيد منها، داعياً الشعب السوداني لمنح الحكومة وقتاً كافياً وأن لا يشغلها بالمُؤامرات والأعمال المُعادية ومنحها الثقة والدعم.
تخطيط استراتيجي
محمد حسين أبو صالح أستاذ التخطيط الاستراتيجي بمعهد الدراسات الاستراتيجية بجامعة أم درمان، أشار في حديثه لـ(السوداني) إلى أنه يُمكن أن تُحقِّق الحكومة نجاحاً كبيراً فقط إذا استطاعت توفير عددٍ من مُقوِّمات السعي لبلورة رؤية استراتيجية واستدعاء عُلماء وخُبراء السودان للمُشاركة وهم الآن يعملون، لكن حلقات التّواصُل مع الحكومة غير فَعّالة وانتهاج سُلُوكٍ يُؤسِّس لوحدة المَشاعر الوطنية والذي تشكّل خلال الثورة ليصبح اتحاداً، ليتطوّر للنهضة ومن ثم فك شفرة الشعب السواني وحينها يُمكن أن يُؤسّس للتنمية..
المخاطر الخارجية والتعقيدات الداخلية تحتم وجود رؤية واحدة للدولة والتّخطيط هي الخطوة الأولى ونحتاج لقيادة تغيير بإرادة سودانية، وهذه يتطلب ارتفاع الحكومة لمُستوى الحكمة واستدعاء مفهوم الدولة لعلاج الأزمة الذي يحتاج لرؤية متكاملة تتضمّن بما يُشجِّع الإنتاج والتصدير ويمنع التهريب، وذلك لمُعادلة الميزان التجاري المُختل، ولفت إلى أنّ الحكومة تدفع الآن دعماً للسلع والخدمات بمبالغ تستهلك جانباً كبيراً من المُوازنة، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الأجور لحدٍّ غير مقبول ٍدُون ترتيبات تتعلّق بالإنتاج وتحسين الأجور، والنتيجة ارتفاع الأسعار واستمرار انخفاض القُوة الشرائية للمُواطن لانخفاض قيمة الأجور وتآكلها ونتيجةً لعدم التصدير يستمر الدولار في الارتفاع، لنظل في دائرة خبيثة.. الحكومة الحالية وضعت رُؤية ورَكّزت على الخارج، وما أخشاه أن البنك الدولي له سياسات ترتبط بأجندات ومصالح، وعلى الحكومة إدراك أنّ مسألة الديون والرفع من قائمة الإرهاب والقبول بشروط البنك الدولي هي أدوات لتحقيق الأهداف.
الوقت مبكر
من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي والمُشارك بجامعة المُغتربين د. محمد الناير، أنّ الوقت الحالي لا يزال مُبكِّراً لتقييم أداء الحكومة باعتبار أن الحكومة عُمرها طفيفٌ، كاشفاً عن عجز الميزان التجاري لأكثر من (4) مليارات جنيه، وأشار إلى أنّ المُؤشِّرات العامة للإصلاح الاقتصادي تسير ببطء في أداء الجهاز التنفيذي، وقال إنّ الحكومة للآن لم تعلن عن مُوجِّهات مُوازنة 2020م، هنالك تأخير لإعداد الموازنة والمُواطن يُعاني من تحديات وصُعوبات الوضع الاقتصادي وارتفاع الأسعار! والدولة تسير ببطءٍ في الإجراءات.. الآن تفاقمت أزمة المواصلات وتضاعفت التعرفة وهنالك زيادة في أسعار السلع والمُواطن ينتظر من الحكومة حل الآزمة!! مُشدداً على الحكومة زيادة المظلة الضريبية أفقياً والسيطرة على الذهب وهو أهم مورد للبلاد، ولكن حالياً كل تَصريحات المسؤولين سالبة!
(صبرك لحظة واحدة)
ويقول البروفيسور عبده مختار لـ(السوداني) إنّ الشعب السوداني صبر كثيراً، ولكن لا أعتقد أن يطول الصبر وعلى الحكومة الحالية الإسراع بوضع وتنفيذ الحُلُول الاقتصادية على أرض الواقع، ولا بُدّ أن يكون الحل جذرياً بدراساتٍ علميةٍ، ونوّه إلى وضع الرجل المُناسب في المكان المُناسب، وشدد عبده لضبط الأسواق ومُراقبتها وعلى الحكومة الإسراع في إجراء تعديل وزاري لتتحقّق الأهداف، داعياً إلى حل المشاكل الاقتصادية من ناحية الدولة العميقة ومُحاربة التهريب واسترداد المال المنهوب، وإلى الآن الحكومة لم تعكس للمواطن في كل خطواتها ماذا تفعل حالياً في حل الأزمات الاقتصادية..!
الخرطوم: عبير جعفر
صحيفة السوداني