قال لي زملاؤه: إنه منذ أيام الامتياز كانت يده راكزة ومباركة في الجراحة، والجراحون الكبار مثل العلماء والمشايخ فيهم غيرة، ولذلك رشحوهوا أن يتخصص في جراحة الأطفال خوف المنافسة.
حرضه زملاؤه برفض التخصص في انجلترا، لأن جراحة الأطفال ليس فيها صيتٌ ولا مال عكس جراحة الكبار فرد عليهم بطمأنينة راسخة: يكفيني الأجر والرضا ودعاد الأباء والأمهات.
زارني بالمكتب رجل أعمال شهير كان قد أعد عدته للسفر إلى ألمانيا لعلاج طفله الذي كان يحتاج لعملية جراحية بالغة التعقيد. نصحه أحد الأصدقاء بأن يذهب إلى عاصمة ولائية قريبة، بها جراح لا يحوجه للسفر ولا لوعثائه. طلب مني رجل الأعمال تزكية فقد علم أن لنا صلة قريبة جداً بالرجل فقلت له: إن الأمر لا يحتاج لتزكية أو توصية فالرجل مبذولٌ للناس، لكنه أصر فكتبت له خطاباً وألححت عليه ألا يسلمه له إلا إذا رأى في الأمر ضرورة. قال لي قبل أن يخرج: ولماذا لم يؤسس عيادته بالخرطوم؟ فقلت له: لقد اختار خدمة أهله وأن يكون محاضراً بجامعة ولايته، ورفض كل عروض دول النفط والمهاجر الأوروبية، رغم أنه لا يمر عليه شهر دون عرض مغرٍ بالهجرة.
وفعلاً سافر رجل الأعمال بطفله إلى المدينة الوادعة وقابل البروفيسور الجراح وبعد أن أكمل كل الفحوصات قرر له جراحة مستعجلة، وحاول إقناع الرجل بأن يُجري الجراحة في المستشفى الحكومي مجاناً وتقليلاً للنفقات، ولكن رجل الأعمال أصر أن يُجري الجراحة بمستوصف خاص لجودة الخدمة والأجهزة. وفعلاً أُجريت الجراحة بنجاح في صمتٍ وزهدٍ ومهنية، وأقسم ألا ينال أجراً على عمله وقال للرجل: تكفيك نفقات المستوصف وأجرة الفندق الباهظة.
فأجابه رجل الأعمال: أنا يا دكتور ملياردير ومن واجبي ومن حقك علينا أن تأخذ أجرك خاصة وأن الحياة أصبحت صعبة ومعقدة، وتوصلا لحلٍ وسط أن يكونا صديقان في السراء والضراء وأخوة في الله.
دخلتُ المكتب ذات صباح فوجدتُ رجل الأعمال مستبشراً مع طفله الفياض بالعافية لاعادة المذكرة التي ما احتاج أبداً لاستخدامها وليملكني عبارة ما زالت في الذاكرة: يا أستاذ هذا الطبيب العالم لا يخدم الناس فقط بل إنه (يستمتع) بخدمتهم، شكراً لك فقد أضفت لي جراحا إنساناً للروح وللجسد وصديقاً يعين على عثرات الأيام.
فما قولكم دام فضلكم في حكومةٍ من التكنقراط الأكفاء في قامة هذا البروفيسور ( يستمتعون) بخدمة الناس؟
حسين خوجلي