توغلات الراجحي .. مشاهد حية من التروس العليا أو صراع الانسان والأرض “١”

في الطريق إلى الشمال، كانت الشوارع شبه خالية من الناس، زخم الحياة يتلاشى شيئاً فشيئاً بمجرد مغادرة الخرطوم، إن لم يتلفت القلب، المساحات الشاسعة ممتدة على الهيئة التي هبط فيها جدنا آدم، لدرجة ان الطرفة المتداولة بأن الله منح السودانيين الأرض وقد حافظوا عليها بما يؤهلهم لدخول الجنة، كان الفريق عبد الفتاح البرهان يتأهب لاحتفال الصلح القبلي في شندي، وتصدير صورة “التحام القائد والجماهير” الصورة التي سيدرك الناس أهميتها ومقصدها بعد حين، سوار الدهب أم نميري أم البشير؟ لا أحد سيغامر بالإجابة مثل بلة الغائب.
السحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين، ولم يكن باستطاعتي رفض دعوة مجموعة الراجحي للوقوف على استثماراتهم، مع مقاومة الرغبة في طرح السؤال المهم، ما المشكلة؟
حقاً ما المشكلة التي استدعت فتح هذه الحظائر الاستثمارية المغلقة للأضواء، بعد أن كانت تنمو وتزدهر في سرية تامة، فقط ترنو صورة الشيخ سليمان عبد العزيز الراجحي وهو يداعب سنابل القمح بشكل سينمائي، وتتدلى لحيته تحت البشت السعودي بوقار شديد. بل ما الذي جعل رجل تقدر ثروته بنحو ٧ مليار دولار يغامر بالاستثمار هنا؟ في مناطق تأخذ رسم التروس العليا المنضومة بالحجارة، وغير مستصلحة على أي نحو كان من قبل؟ كما أنه سيجابه لاحقاً معضلة صراع الانسان والأرض، ذلك الصراع الأزلي حتى بين الأهل والأشقاء؟
في الحال طفرت كلمة في الخاطر، الحماية، لا بد أن المجموعة باتت تفتقر للحماية في زمان الفوضى غير الخلاقة، الدولة ظلها انحسر تماماً؟ ما يهدد الاستثمارات، الراجحي وغيره بضرر بليغ، لا يقل فداحة عن خسارات صادر الثروة الحيوانية.
في مصنع البلح بمدينة بربر تخيرت فتاة كانت تغلف التمر بطريقة مدهشة، اقتربت منها وسألتها عن قصتها؟ عرفت أنها حصلت على هذا العمل بعد أن تلقت التدريب المحفز، وأنها تعول أسرة صغيرة، فلم يكن متاحاً لها قبل ذلك أن تتلقى ما يعينها على مجابهة نوائب الدهر وصروفه.
حالياً توسعت الشركة بفضل المجموعة المختارة بعناية لإدارة المشروعات النوعية، بين الموجة والخزان، تحديداً مشاريع الكفاءة، الشمالية، وتوشكى .. انا الأن داخل مشروع الكفاءة وسوف أنفق ليلة كاملة هنا، في منطقة كانت مجرد صحراء، تهب عليها الرمال، والأن كما أرى “خدارا يرارى شوف عينى” بالطريقة التي تدفقت بها شاعرية حميد.
يهمني أيضاً طرح السؤال المقلق، هل تعتبر استثمارات الراجحي في السودان ناجحة أم خاسرة؟ والنجاح هنا ليس بمعدل الأرباح التي تعود للمجموعة، وإنما الفائدة المباشرة التي تجنيها الدولة والمجتمع المحلي؟ قبل الإجابة لابد من الإشارة إلى اشكالات تواجه المجموعة بخصوص مطالب التعويض، لأن السلطة خلطت الأوراق كما يبدو، ولم تحفظ للجميع حقوقهم.
طفت بنفسي على ألاف الهكترات، وذهلت مما رأيت صراحة، تقنيات زراعية حديثة، كما هو الحال في أوربا والدول المتقدمة، أنظمة تعمل بالطاقة الشمسية، نظام التحكم بالري SCADA وتوظيف عجيب لمفهوم الزراعة الدقيقة، أظنها جميعها تندرج تحت عنوان الميكنة، ياه أخيراً وجدت معنى لهذه الكلمة.
قبل التوغل في مشروعات الراجحي، علمت أن الشيخ وهبها كمشروعات وقفية، ونصحهم بعدم الدخول في معارك مع الأهالي، لأنه يريد أن يعمل في مناخ صحي، ويهمه الشراكات المُرضية للجميع، كما أنه، أي الشيخ سليمان مهتم بالمسؤولية المجتمعية، ويفضل أن لا يعلن عنها حتى لا ينزع منها البركة، ولعل الشركة منذ تأسيسها تركز على الاستثمار في الأمن الغذائي، وهذا بالطبع يساهم في سد حاجة المجتمعات من الغذاء، والتنمية بشكل عام، خصوصاً في السودان بمساحاته الأسطورية، إلى جانب الحرص، كما لمسنا في مصنع التمور، على تحقيق بيئة منافسة لجميع الموردين لها، ومراعاة استفادتهم والشراء منهم بسعر السوق، الذي يمتلك نخلة واحدة والذي يمتلك حقل، كلهم على حد سواء، فهى زراعة لا تبور بعد اليوم، من لقاي وقنديلا.
الرحلة تبدو متعبة، لقسوة الطبيعة، حتى على من يعملون بها، رغم تذليل الصعاب، كما أن إجمالي مساحة مشروع الكفاءة نحو 21,000m تنهض فيها محاصيل القمح، السمسم، الذرة الصفراء، الأرز، عباد الشمس، الأعلاف، إلى جانب مصنع التمر ومزارع السمك وتربية العجول، فهى بالمجمل دولة كاملة تزدهر بعيداً عن الأعين، ومع ذلك كانت توجيهات الشيخ سليمان، لا تصدير ” قلت لكم لا تصدير حتى كفاية البلاد” .
من فوائد الاستثمار غير توفير العملة الصعبة وتنمية البلاد وبذل المشروعات المصاحبة هى توفير فرص عمل، في وطن ارتفعت فيه نسبة البطالة بصورة مروعة، وفتح بيوت خيم عليها شبح الفقر كسقف مديد، ولعل مصدر القلق هنا تتبدده طمأنينة مشهودة، حيث أن أربعمائة عامل في المشروع بينهم عشرة أجانب فقط، الهدف منهم التدريب، وتوطين الخبرات .
ولكن ماذا عن الانسان، انسان بربر، ماهو نصيبه من فرص العمل والتنمية؟ سوف أحاول أن أتعرف على ذلك، وستكون فكرة التجول نفسها موضعا لتلق الشكاوي؟ وإن كانت الإجابة المتاحة، غير كافية في تقديري، حيث أن الشركة للتو قد لبنت واستوت مشروعاتها على سوقها، وحان قطافها، وقد انقطع كل ذلك الوقت، في دأب العمل التمهيدي وتجريب انواع مختلفة من المحاصيل والتقنيات، إذ ليس من السهولة أن يهبك أحد الطريق في هذا الزمان، وبدلالة زراعة (١٤) صنفاً للقمح والموز الذي بيعت منه ١٠٠ ألف شتلة لولاية الخرطوم، كذلك زراعة (١٢٥٠٠) شتلة من أجود أنواع التمور ليتم بيعها بالداخل كأمهات، وقد أوضح المدير الإقليمي لشركة الراجحي فائز الشيخ، وهو سوداني بالمناسبة، عدم تصديرهم للقمح الذي يتم زراعته في المشروع بالسودان، وربما يسأل أحدهم، هل هذه محمدة ام مفسدة؟ في الحال فإن الإجابة الجاهزة، لا يمكن أن نصدر القمح لنستورده.
وتحدث فائز بصراحة عن المتاعب التي واجهتهم، لافتاً إلى أنهم قاموا بحل كثير منها ودياً، ولا زالت تواجههم اعتراضات الأرض في الشمالية، رغم أنهم يمتلكون شهادة بحث وفقاً لقانون الاستثمار، وربما ذلك نتيجة للتضارب بين الحكومة المركزية والولائية، وقال أن المشروع ناجح للغاية واستطاع أن يقدم تجربة ثرة في مجال الإستثمار الأجنبي بالسودان.
اما الشيء المتداول إلى درجة الازعاج هو منطق منح أرض استثمارية شاسعة لمدة ٩٩ سنة، وظلم الأجيال القادمة؟ غير أن حكومة نهر النيل قالت ان المسألة ليست بهذا الإطلاق، لأن الفترة مشروطة، كما أن الأرض تنقسم إلى ملك حر وملك منفعة، ملك المنفعة حسب قانون التصرف في الأراضي تمنح ل٣ سنوات ولغرض معين ولا يسمح بتحوير الأرض الزراعية إلى سكنية، فضلا على تجديد التعاقد لمدة سبعة سنوات، وتتمدد الفترة هكذا بمتوالية مع مراعاة مدى الفائدة والالتزام بالشروط، وإن لم يلتزم المستثمر أو لم يستصلح الأراضي يتم استرداد المنفعة.
نواصل

عزمي عبد الرازق

Exit mobile version