بالنسبة لي فان هنلك تمثيل كبير لأبناء الأقاليم التي تشتعل فيها الحرب داخل القوات النظامية بالعموم مما يجعل الحديث عن عنصرية هذه القوات أمر مضحك ومثير للسخرية ، أذ كيف ستبنى خطبك المعنوي والتحريضي لخوض الحرب علي السحنة واللون ، هذا الكلام غير ممكن نظرياً و عملياً ..
كيف يمكن أن تحمل قوات أجندة عنصرية و أغلب “البندقجية ” أو حملة البنادق فيها من الأقاليم التي تدور فيها الحرب ؟
هذه واحدة ..
التمثيل السياسي لهذه الأقاليم داخل الحكومة المركزية كبير و كذلك داخل برلمان البشير الأخير و من خلال ما تعارف على تسميته بأحزاب الفكة و غيره .. حيث وضحت أكثر من مرة أن كتلة نواب أقليم دارفور هي أكبر الكتل البرلمانية مطلقاً .. و حضور أبناء دارفور داخل منصات الحوار الوطني كان بعشرات الحركات المسلحة و الأحزاب التي لا وزن لها ..
الغريب في الموضوع عندما تشير الى هذا الكم االهائل من المسؤولين من تلك المناطق داخل هرم الدولة يقولون لك هذا ” ترميز تضليلي ” لأن كل هولاء المشار اليهم أنما هم عملاء ” للجلابة ” .. شئ غريب جداً .. في البداية تبنى محاججتك على أساس عرقي فنثبت لك أن القوة الضاربة في مؤسسات القمع من ذات الأثنيات ..
ثم تبنيها علي أن التمثيل السلطوي ضعيف فنحشد لك أسماء قيادات الفرق العسكرية و كبار الجنرالات الحاضرين في هرم المشهد السياسي و كذلك في هرم الدولة أبتداءاً من منصب نائب الرئيس الذي شغله حسبو عبدالرحمن فالحاج أدم ثم أخيراً يوسف كبر فتقول أنه “ترميز تضليلي ” ..
ما المطلوب من الدولة أن تفعل ؟ صحيح أن التمرد أخذ الصبغة القبلية في دارفور و لكن الحكومة لم تأخذ البعض بجريرة الكل و فصلت ما بين عبدالواحد الذي يحمل السلاح و بين التجاني السيسي و عينته مسؤولاً عن السلطة الأنتقالية .. و فصلت ما بين مناوي عندما دخل القصر و خليل الذي كان يحارب في الصحراء في ذات الوقت .. و النماذج كثيرة ..
هذه ثانية
الثالثة هي مسألة التعليم قلت مما سبق أن علاقة الدولة مع درافور في الحكم التركي المصري كانت جدلية بين الأخضاع و الثورات ، و أن دارفور ظلت بالنسبة للأتراك حتى سقوط عاصمتهم في السودان مصدر للمشاكل و غير ذات عائد أقتصادي ، و كذلك الأنجليز ، أذ أنهم أحتاجوا 20 عاماً ليضموا دارفور لحكمهم بعد أن سقطت أمدرمان في يدهم ..
عشرون عاماً بنيت فيها كلية غردون التذكارية و قصر الحاكم العام و أبتدر الأنجليز التعليم الحديث و المدارس الحديثة ، عشرون عاماً كانت فيها حركة الأفندية قد قوي عودها و تفتح وردها ، عشرون عاماً تشكل فيها وعي وطني جديد و كانت دارفور غائبة ..
هذه العشرين جعلت النخبة المتعلمة التي أستقبلت المستعمر و صنعت جسوراً للتواصل معه و نالت ثقته و صعدت سلم الخدمة المدنية في وجوده هي البديل الأحد الذي كان متاحاً لأدارة الدولة بعد خروج المستعمر .. لذا فمن الطبيعي و الطبيعي جداً أن يشغل أهل المناطق الأكثر حظاً من التعليم و أصحاب المواقف الأيجابية من المستعمر و يعيشون في المدينة التي أسسها و يحملون وعياً مطابقاً لوعيه أن يكونوا خلفاءاً له ..
ناهيك عن أهمية الأشارة الي رفض أهل الشمال و الوسط لدعوى المهدى المنتظر ، فالأسلام في الشمال و الوسط كان أسلاماً عالماً ، أسلام قضاة و علماء ، على عكس النموذج الأخر الذي كان موجوداً في “ظهاري ” كردفان والذي كان يحمل الطابع العجائبي المهدوي ، و لن نجد تعبيراً أبلغ من تعبير د.أبو القاسم حاج حمد عن أن المهدي بلغ كردفان و هو مهدي منتظر و بلغ الخرطوم و فتحها و هو مهدي منتصر ..
خلاصة القول أن معرفة الشمال و الوسط بالدولة بدأ باكراً فالحضارة منذ بدء الخليقة تكون عند الانهار و المصبات ، و السودان بالشكل الحديث صنع في عهد الترك و كان صغار الموظفين و الكتبة فيه من الشمال و الوسط ، و كانت دولة المهدي طارئة لا تتجاوز العقد و نصف العقد ، بعدها أحكم الأنجليز قبضتهم علي البلد و وجدوا تعاوناً من مبغضي الخليفة عبدالله التعايشي .. و حلوا محل صغار الكتبة و الموظفين .. ثم علموا أبنائهم ليصيروا مثل الأنجليز الأسياد فكانت طبقة الأفندية في السودان .. أما التاريخ في تلك النواحي البعيدة من الخرطوم جنوباً و غرباً لم يكن كذلك بل عمته العتمة و الظلام و الوجه القبيح من الدولة الحديثة ..
الرابعة هي المظلومية ، في رأيي أن المجموعات التي تمردت على الدولة هي المجموعات القبلية الاكثر ثراءاً و الاكثر حضوراً في السلطة و ليس العكس ، فالقبائل العربية في دارفور علي الأوضاع المعيشية المتردية التي يعيشها الرعاة و موجات الجفاف التي تسببت في هلاك ماشيتهم بالجوع مرات و مرات ، لم يعرفوا الدولة لا في شكل أمن و لا في شكل خدمات ولا في أيام الفواجع والكوارث ، و أن كان التمرد حقاً على أسس التهميش و غياب التنمية لكان العرب في دارفور هم المتمردين و ليس العكس ، فالمواضع الأكثر فقراً بدارفور هي مواضع العرب ، و الولاية الأكثر أحتواءاً للعرب هي ولاية جنوب دارفور و هي الأفقر ..
و في رأيي أيضاً فأن المجموعات التي كانت تقاتل في دارفور أختارت بمحض أرداتها أن تنقل الحرب الي مرابيع أهلها و مساكنهم ، أنت و عندما تختار السلاح كوسيلة للمطالبة بحقوق سياسية أو تنموية فأنت قد أخترت مسبقاً الطريقة التي ستواجهك بها الدولة و لم تترك لها خياراً أخر ، و لي رأي مفاده لولا غياب الدولة و أبصار المتمردين لضعفها في تلك النواحى لما تجراً الناس علي التمرد عليها ، الي جانب البعد الخارجي الذي كان له الأثر الاكبر في تكوين هذه القوات سوى كان ذلك من خلال الرئيس التشادي دبي أو الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ، حيث حرص الأثنين علي تصفية حساباتهما مع الحكومة في الخرطوم عبرها ..
و المسألة الخامسة أن السودانيين يغيب عنهم الأساس الذي تشكلت عليه دولتهم و هو أساس هش جمع بين قوميات و أثنيات كثيرة كان لها كياناتها السياسية الراسخة التي تعبر عنها و كان من باب أولى علي النخب القديمة التي أستلمت الراية من الأنجليز أن تخير هذه الشعوب و تمنحها الحق في تقرير مصيرها حتى تكون البداية صحيحة أذا لا يمكن أن نستمر في تبني رؤية الأنجليز لما يجب أن يكون عليه الوطن الذي سنعيش فيه ..
اليوم و بعد سنين طويلة جداً ما زال السودان يدفع ثمن هذا الخطأ الكبير ، حروب لا تنتهي معضلات متشابكة يصعب حلها ، و نواقيس حروب أهلية شاملة تقرع في ظل سقوط الدولة المركزية و انهيارها .. وما دمنا لا نطرح الأسئلة الصحيحة فاننا لن نحصل على الأجابات الصحيحة هل يمكن للسودانيين العيش معاً و أدارة تنوعهم أم يجب عليهم أن يقسموا بلدهم ثم تكون الوحدة طوعية بين المتقاربين و المتعايشين ..
عبدالرحمن عمسيب
أكتوبر 2019