يعتبر ابن خلدون ظاهرة استثنائية فى الفكر السياسي ، وفى الدراسات التاريخية ، وفى التعامل مع الحياة من خلال القوانين ، ولهذا اعتبر المفكر الغربي الكبير ، والمؤرخ العالمي توينبي أعظم عقل فى العالم فى المجال التاريخي ، ذلك لأنه لم يهتم كغيره فى أحداث التاريخ ، ولَم يغرق نفسه فى عالم الأشخاص ، بل حاول أن يعرف بشكل منهجي ، لماذا تقوم دولة ؟ وكيف ؟ وعلى أي أساس ؟ ومتى تسقط الدولة ؟
لقد فهم من خلال الدراسات أن الحكم شيئ ، وممارسة التجارة شيئ آخر ، ونحن نعرف أن المال فى الدول الرأسمالية الديمقراطية طريق نحو الحكم ، وفى الدول الشمولية ، يصبح الحكم طريقا نحو المال ، فالعلاقة بين المال والحكم عميقة ، وخطيرة ، فتؤدى تلك العلاقة إلى الفساد ، ومن هنا رأينا حديث القرآن دائما عنهما فى سياق واحد ، فقد تكون العلاقة عضوية ، ولهذا يكون الحكم الصالح يخطط فى تحرير الحكم عن المال ، بينما يخطط الحكم الفاسد فى استخدام المال لاستدامة الحكم ، وليس من العبث أن نجد الحديث فى القرآن مستمرا فى العلاقة بين المال والحكم حتى فى المصير ، ولهذا وجدنا الإنسان يقول فى يوم القيامة معاتبا على نفسه ( ما أغنى عنى مالية . هلك عنى سلطانية ) ، لأن الأنظمة الفاسدة تجمع بين الجمع والمال .
إن الإسلام فى البداية رفض جمع الحكم والمال معا ، ولهذا رفض الصحابة أن يمارس الخليفة الأول أبوبكر التجارة حين اختاروه للحكم ، ومنحوه راتبا له ولعياله ما دام يمارس الحكم ، وكانت تلك تجربة فريدة فى التاريخ البشري ، وسابقة دستورية فى الحياة السياسية ، لأن الجمع بين التجارة والحكم فساد عام ، وهذا الفساد يشرى على المال والحكم معا ، ومن هنا وجدنا ابن خلدون يقرر بأنه إذا تعاطى الحاكم التجارة ، أنه يفسد بذلك الحكم ، ويفسد أيضا المال ، وهما قطبان للحياة ، فلا قوام للأمة بدون مال ، ولا استقرار لها بدون حكم ، بل نؤكد بأن المال يحتاج إلى دولة ، والدولة تتطلب إلى مال ، ولكن السؤال ، كيف يتم ذلك ؟
يتحدث ابن خلدون وغيره من فلاسفة العلوم الإجتماع السياسي فى الفكر الإسلامي أن الملك يحتاج إلى الجند ، والجند بالمال ، والمال بالخراج ، والخراج بالعمارة ، والعمارة بالعدل ، والعدل بإصلاح العمال ، والعمال بالاستقامة الوزراء ، فلا يمكن لدولة ما أن تبقى إذا اختلت فيها الموازين ، وها هو الذى يؤدى إلى خراب العمران ، فالفساد المالي يُفسد الجند ، والفساد السياسي يخرّب عالم المال والتجارة ، ونحن اليوم نعيش فى داخل المنظومات التى تعشعش فيها الفساد بشكل ممنهج ، فالدولة كلها بيد فرد واحد لا شريك له فى ملكه ، ولا ندّ له فى العمل ، ولا شبيه له فى صفات الكمال ، ومن هنا تقدّس وحده دون الناس ، ولهذا نجد السقوط الحتمي لجميع الدول فى منظومتنا الفاسدة .
إن الحاكم الفاسد يبنى نظاما فاسدا ، ويعمل فى صناعة منظومةفاسدة ( الدولة العميقة ) ، ويجعل المال وسيلته الكبرى والمثلى فى صناعة الولاءات ، فهو يمنح العطاء بمقابل الولاء له ، ويصنع الأسواق الخاصة له ولمريديه ، فيكون هناك الجنرال العسكري التاجر إلى جانب الجنرال الأمني التاجر ، والوزير التاجر ، وابن الرئيس التاجر ، والعائلة الحاكمة الممارسة للتجارة ، فتصبح التجارة محتكرة لفئات معينة دون الشعب ، وحينها تضعف دور ( العصبة ) ذلك لأنه لا بد من عصبة تحمى الدولة ، فلا دولة فى نظر ابن خلدون بدون عصبة ، والحاكم الظالم الفاسد يُظهر له الشعب الولاء ، ويبطن له الكره ، فإذا نزلت نازلة أسلموه ، ولا يبالون ، وعندما تبدأ الدولة فى الإنهيار يكثر فيها المنجمون ، والإنتهازيون ، ويقل فيها المخلصون ، ويهرب منها المفكرون ، ويتسرب منها أهل الكفاءات والذكر ، ويبقى فيها ضعاف النفوس والعقول ، ويكون فيها الحديث عن عائلات الحكم والمال ، وحينها يتحقق فيها قوله تعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا ) .
إن هذه الآية تحمل فى طياتها معنى عميقا قلّ أن يلتفت إليها الناس كثيرا حيث تتناول وجود علاقة عضوية ما بين الترف والهلاك ، فيعتبر الترف مقدمة للهلاك ، والترف حين يكون مقدمة للهلاك يصبح حالة مجتمعية مقبولة ، وطريقة ثقافية منتظمة للحياة ، فلا هلاك بدون تلك المقدمة ، ولكن كيف يصبح الترف حالة ثقافية مجتمعية ؟
يصبح الترف حالة ثقافية مجتمعية حين يقبل المجتمع ذلك ، فيعيش الحكام ترفا بلا حدود ، ويعيش الفقراء أملا ليكونوا يوما ما جزءا من هذا الترف ( يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، إنه لذو حظ عظيم ) ، فلا حديث إلا ترف المترفين ، وهناك أمر آخر وهو أن المال يكون فى يد الحكام ،ولهذا كانت القراءة الثانية بتشديد الميم ( أمّرنا ) ، أي كان الأمر بيد المترفين ، والحقيقة هي أن الحكم الفاسد نتيجة تداخل غير صحي ما بين المال والحكم ، فالمال الفاسد يُفسد الحاكم المتدين ، وغير المتدين ، والحكم المطلق فساد مطلق ، فلا مناص من الفصل بين المال والحكم إذا أردنا أن ننجح فى إنقاد الدول من السقوط ، وهذا عمل كبير يتطلب إلى تضافر الجهود من الجميع ، وإلا فالسفينة تغرق ويهلك الجميع .
عبد الرحمن بشير