تحقيق العدالة في الجرائم المتعلقة بانقلاب 1989 وما ترتب عليه هل يمكن أن يحدث عبر المحاكم الحالية ام يحتاج الي محكمة خاصة
هل من الممكن أن تتم محاكمة البشير وقادة النظام السابق على الجرائم والأفعال التي ارتكبوها منذ 1989 بواسطة الاطار القانوني والنظم القضائية السائد حاليا في السودان، والتي اشرفوا هم نفسهم على وضعها لتقنين وجودهم في كراسي الحكم وحمايتهم، حتى خلعهم الشعب السوداني بانتفاضته؟ اعتقد ان ذلك سيرقى الي مرتبة السماح لهم بالافلات بجرائمهم دونما حساب ولا يزال في البال المهزلة التي حدثت في محاكمة حسني مبارك والتي انتهت بتبرئته وخروجه. واستمرار سيادة الأليات الادارية الموروثة من العهد السابق يشكل مهددا حقيقيا لنزاهة الإجراءات في مقابل واضعيها. لا يمكن بشكل فعلي محاكمة المجرمين بواسطة القوانين التي اشرفوا على وضعها. كما أن وضع حالة الطوارئ التي يتم استخدام تبرير اعتقالهم لتبريرها هي حالة غير طبيعية ينبغي أن تنتهي بسرعة لتبدأ عملية إصلاح قانوني متكاملة وعميقة للنظام القانوني في هذه البلاد.
ربما يكون من المناسب اكثر تأسيس محكمة خاصة بانقلاب 30 يونيو 89 ما ترتب عليه بعد ذلك من جرائم ارتكبها النظام الذي اسسه. وذلك باعتبار ان كل ما تم منذ لحظة الانقلاب وحتى سقوط البشير قد تأسس على جريمة الخروج على الشرعية الديمقراطية التي ارتضاها اهل السودان في ذلك الحين. واستخدمت السلطة التي اسسها الانقلاب كل جرائم القمع والفساد والقتل الجماعي والتشريد وغير ذلك من الجرائم للحفاظ على مقعد سلطتها. وخلال ذلك دمرت أجهزة الخدمة المدنية وعبثت بالنظم القضائية والعدلية لخدمة أهدافها الايدلوجية واعملت في أهل البلاد المختلفين مع هويتها المركزية تقتيلا وتشريدا واغتصابا وما الي ذلك من جرائم لم تدر في خلد المشرع السوداني وهو يضع قوانينه.
ان تأسيس محاكم خاصة، يحدد لها إطار القانوني بتشريع محدد لمعالجة قضايا ذات طابع خاص في حالات الانتقال كالتي حدثت في السودان، ليس بدعة قانونية ولا سابقة جديدة. فقد شهدت عدة حوادث في التاريخ على مثل هذه المحاكم مثل محاكم نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، أو المحاكم الخاصة بالوضع في يوغسلافيا في تسعينات القرن الماضي او حتى المحكمة الجنائية الخاصة برواندا، أو محكمة صدام حسين او محاكم كوسوفو والبوسنة والهرسك وتيمور الشرقية وسيراليون وغيرها… كل هذه الحالات والمحاكم تلت حالات انتقال سياسي من وضع شهد جرائم وفظائع يتقاصر عن تحقيق العدالة فيها النظام القانوني السائد. وبالطبع فإن هذه المحاكم لا يترك لها الحبل على الغارب لتتحول الي محض انتقام، بل يتم تحديد الإطار القانوني الذي يوازن بين قدرتها على تحقيق العدالة للضحايا وضمان حقوق المتهمين في الدفاع عن أنفسهم دون قيود العقبات الاجرائية التي قد تساعدهم على الافلات من العقاب. إن من سخرية القدر ان احدى التهم التي يحاكم عليها البشير اليوم هي نفس التهمة التي اعدم بموجبها مجدي وجرجس وبمبالغ خاصة بهم تبلغ قيمتها اقل بكثير من تلك التي اكتنزها البشير من المال العام بغير وجه حق في بيته، ولكن القانون الساري الذي يحاكم به البشير حاليا لن يسمح بايقاع عقوبة الإعدام التي وقع عليها البشير بنفسه في حق مجدي وجرجس على البشير. فاي امتهان للعدالة سيكون ذلك.
تأسيس محكمة خاصة بالنظر في كل الجرائم المتعلقة بانقلاب يونيو 89 والمترتبة عليه يشكل ضرورة حقيقية من أجل إنصاف الضحايا والمجتمع، وضرورة إظهار حقيقة ما حدث باعتباره جزءاً من أي عملية لتحقيق التعايش السلمي في المستقبل وخلق رادع يحول دون ارتكاب المزيد من الجرائم… وهو الأساس المتين لسيادة حكم القانون.
د. امجد فريد الطيب