كلمة رئيس الوزراء بمناسبة ذكرى ثورةإكتوبر

وجه رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك مساء اليوم كلمة للشعب السوداني بمناسبة مرور الذكرى الخامسة والخمسون لثورة أكتوبر المجيدة

وفيما يلي تورد (سونا) نص الكلمة :

تمر الذكرى الخامسة والخمسون لثورة أكتوبر المجيدة التي كانت نقطة انطلاق نوعية في مضمارِ الثورات الشعبية السودانية، وهي ثوراتٌ هُزم فيها الاستبداد والقهر والقمع في كل مرة، وانتصرت قيم الحرية والديمقراطية عبر تضحياتٍ شعبيةٍ خالصة، فلم يضنَّ الشعب يوماً على التغيير، وقد دفع أثماناً غالية لأجل تحقيقه على طول خطوط التاريخ، وهذا لوحده كافٍ كي نعقد العزم على إطالة أمد انتصارنا الآني هذا، ونرعاه حتى يشتدَّ عودهُ، وحتى تصبح هذه القيم عادة ثابتة لا تُكسر باختطاف، ولا تتعطَّل بانقلابٍ أو تغيب مع انتكاس، وإلى أن تُستدام هذه القيم وتُرسَّخ جنباً إلى جنبٍ مع العدالة والإنصاف والسلام والاستقرار والنماء، فكلها حلقات متصلة ذات عروة وثقى.

إن أمر الثورات في بلادنا ليس صدفة، ولا الانتصارات ضرب من الحظ، ولا التضحيات جروح عابرة، ولو نظرنا لتاريخ بلادنا لوجدنا أن بذرة الثورة والتغيير كانت ضاربة في تربتها، وفي كل حقبةٍ كانت الثورة تتَّخذُ شكلاً جديداً، فتنوَّعت من المواكب السلمية في ديسمبر الثورة (٢٠١٨)، التي حملت الراية من هبة سبتمبر (٢٠١٣)، وكانت سبتمبر ذروة نضالٍ شعبيٍ تواصل لسنوات، نضال شعب حمل الأمانة جيلاً بعد جيل، فتجدَّدت أكتوبر في أبريل، وكان الاستقلال قبلهما أساس، وثورة ١٩٢٤ طوب بناء، وكانت الثورة المهدية مونة ومؤونة لما تلاها، وكذا فإن شعبنا طوال تاريخه لم يُسقِط الراية ولم يستسلم، بل صبر وتماسك مع كل انتكاسةٍ، فنهض في طورٍ آخر لخوض غمار التغيير غير مبالٍ بالصعاب.

بالأمس اتّخذ شعبنا وضع الاستعداد، وضرب بسلميته مثلاً يُحتذى في التغيير، وأصبح منارة للشعوب، فقد خاضت بناته وأبناؤه هذه المعركة، والتفّوا حول العدو وحاصروه تماماً باستخدام أدوات حديثة تلاقحت فيها العلوم والمعارف والتكنولوجيا، والعزم كان الوعاء، والإصرار كان هو النار التي استوى عليها مشروع التغيير، ووحدة المشروع والأهداف بين مكونات شعبنا وفي جهاته كلها ظلّت هي العنصر المؤثر، وهكذا وبهذا لا تزال الثورة مستمرة.

اليوم أنا أتحدث إليكم بفضل هذه التضحيات فدىً لعيني وطننا هذي الدماء التي خطّت على الأرضِ سُطور النضال

هذه الكلمات الشعرية الأكتوبرية الباذخة، ما كانت لتُرسَم وتُغنَى لولا فوران هذه الأرض طرباً لمّا استقبلت الشهداء بين أحضانها، ولمّا مشت عليها الأقدام مغبّرة بين كرٍ وكر، وقد خلخل ثبات المعتقلين ترابيس السجون، التي هي كبثورٍ على وجه هذه الأرض، كما تعبت السياط بسبب استقامة الظهور واستقامة المواقف.

أرضنا هذه لها عندنا كسودانيين رمزية عالية، فترابها ليس كأي تراب، وعبقها لا يُقارن بغيره، وطينها عطاؤه نستمد منه الحياة.

يا شعبنا يا والدنا ويا مربينا، لقد شهدت فترة الشهر والنصف الماضية، وهي عمر حكومتكم المدنية، بعض الإجراءات لتثبيت السلطة المدنية وتحقيق أهداف ثورتكم المجيدة، وما نحتاج إليه معاً هو تحويل هذا البعض لكُلٍ تام، وهذا يمكننا إنجازه بتكاتفنا جميعاً، لنقطف ثمار ما زرعناه ورعيناه وسقيناه بالدماء والدموع.

شعبنا المنتصر

رغم قصر فترة الحكومة الانتقالية، إلا أننا رأينا ومع هذه المناسبة المجيدة، ذكرى ثورة أكتوبر، أن نطلعكم على بعض ما تحقق خلال هذه الفترة، ولمّا كانت شعارات الثورة هي حرية، سلام، وعدالة، فإن مهمتنا الأساسية كانت منطلقة من تحويل هذه الشعارات إلى واقعٍ ملموس.

إن تحقق الحرية يتطلب إجراء إصلاحات قانونية عاجلة، وتقوم الآن المؤسسات العدلية والهيئات المعنية بتعديل القوانين وتطويرها ووضع مشاريع بديلة تواكب مرحلة التغيير، وتحقق تطلعات شعبنا في العيش بحرية في الرأي والتعبير والتنظيم والتجمع.

إن قضية السلام قضية محورية لحكومة الثورة، وذلك لأننا نربط مسألة السلام بالانتقال الديمقراطي، كما نربطه بالتطور الاقتصادي، حيث إن تحويل مناطق النزاعات والحروب إلى مناطق آمنة سينعكس مباشرة على التنمية، فهذه المناطق غنية بالموارد التي سترفد بلادنا بالكثير من الخيرات التي عجزنا لسنوات طويلة عن استغلالها من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المرجو، والذي يشبه بلادنا كبلادٍ غنية لا تحتاج إلا للعمل من أجل أن تلحق بمصاف الدول المكتفية بمواردها، والمصدِّرة لما فاض عن حاجتها من هذه الموارد.

لقد نجحنا في تشكيل المجلس الأعلى للسلام، وإنشاء مفوضية السلام، كما اتفقنا على محاور التفاوض حول السلام، والتي تتمثل في:

وضع الترتيبات الأمنية

التنمية الاقتصادية والاجتماعية

التشريعات والقوانين

الحكم والإدارة

كما إننا نحرص على استصحاب رؤية أصحاب الحق والمتضررين مباشرة من الحروب والنزاعات في كافة المناطق.

كذلك فإن قضية العدالة بالنسبة لحكومتكم ليست قضية للكسب السياسي، بل هي قضية مبدئية تتضمن رد الحقوق والمظالم، وإبراء الجراح وتقديم التعويضات للناجين والضحايا خلال الثلاثين سنة الماضية، وفي هذا الإتجاه فقد تولَّى كلٌ من رئيس القضاء والنائب العام مهامهما، وفي هذا الصدد، فإننا نعرب عن احتفاءنا بأن تتولى امرأةٌ منصب رئيس القضاء لأول مرة في تاريخ السودان.

ومن جهة ثانية، بدأنا في إزالة مظاهر التمكين من مؤسسات الدولة وهيئاتها، وقمنا كذلك بتكوين لجنة التحقيق المستقلة الخاصة بأحداث فض الاعتصام، والوقائع التي تمت فيها انتهاكات لحقوق وكرامة المواطنين بمحيط القيادة العامة بالخرطوم والولايات. كما تمَّ تكوين لجنة بخصوص المفصولين من الخدمة المدنية، وهذا أمر فيه إعادة اعتبار لكثيرين تضرروا مادياً ومعنوياً.

اتفقنا كذلك على فتح مكتب قطري للمفوَّض السامي لحقوق الإنسان، وهذا المكتب سيساعدنا كثيراً في تقديم العون الفني للحكومة في مجال حقوق الإنسان، علاوة على القيام بمراقبة وتقديم تقارير حول أوضاع حقوق الإنسان في كل السودان.

جماهير الشعب السوداني

لقد كانت لنا جولة خارجية حققنا معها العودة للمجتمع الدولي كعضو أصيل ومنتج غير ضار ولا باغي، كما كانت رسالتنا من خلال هذه الجولة هي ضرورة إقامة علاقات صحية بين السودان ودول العالم، مبنية على تبادل المصالح واحترام توجهاتنا في البُعد عن المحاور، والتأسيس للثقة فينا كدولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ، تسعى لتكون ذات وجود إيجابي في المحافل بين الأمم، ومصدراً للخير لا مورداً للشرور والضرر.

شعبنا الأبي الكريم،

لن يغيب عن الفطنة أن هذه الجولة حملنا خلالها همومنا الداخلية وأولويات حكومتنا المتمثلة في مطالب وأحلام الشعب العاجلة في إحداث الاستقرار الاقتصادي وتحقيق السلام كشروط لاستدامة الديمقراطية، وفي هذا فإن هموم وهواجس المواطنين هي همومنا وهواجسنا لأننا نمثِّل الشعب ونحمل مسؤوليته، فنحن لصيقين بقضية غلاء الأسعار، ونعمل بجد لحلها على المستويين قصير وطويل المدى، ونحن على دراية تامة بمشكلة المواصلات، وقد وضعنا في هذا الجانب مقترحات عملية سترونها في مقبل الأيام، كما نؤكد حرصنا على زيادة اهتمام الدولة بالتعليم، وهناك الكثير من البرامج والنشاطات سيتم تفصيلها من قبل الجهات المعنية في جانب الرسوم والبيئة التعليمية. ونذكر هنا تكليف مدراء جدد للجامعات كأحد مظاهر ما بعد التغيير لتهيئة البيئة الجامعية لاستقبال الطلاب.

أيضاً نولي اهتماماً كبيراً للصحة العامة للمواطن وصحة البيئة والخدمات الطبية والصحية، وستشهد الفترة المقبلة تحوّلاً مشهوداً في نوع الخدمة الطبية وجودتها وتسهيل الحصول عليها.

تدركون أن كثير من العوائق والعقبات تحيط بأعمال السلطة الانتقالية، ورغم إدراكنا جميعاً أن بعض هذه العقبات وُضعت عن عمد، لكننا عازمون على تخطي هذه الصعاب مهما تعقَّدت، وعلى تجاوز هذه العوائق مهما كبُر حجمها، وهذا سيحدث إن تكاتفنا وتماسكنا من أجل العبور.

لقد حقَّقنا خلال هذه الفترة القصيرة بعض ما كنا نصبو له، وكانت الأهداف التي وضعتها الثورة هي مرشدنا، فأتى ما تحقق وهو يحمل سمات ثورة ديسمبر المجيدة.

شعبنا الأبي

إن منهجنا في العمل لن يكون مستنداً على الوعود المجانية والمتخيَّلة، ولن نقدم لشعبنا خططاً مستحيلة أو برامجاً غير واقعية، وسنحرص على الشفافية والمصداقية في طرح ما أنجزناه وفيما يمكن أن ننجزه دون تزيُّد أو تعتيم، كما نتوقع ألا نكون وحدنا في تحقيق أهداف الثورة ودفع بلادنا إلى مرافئ آمنة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.

في الختام تؤكد حكومتكم، حكومة الثورة، إن عملية التغيير هي عملية مستمرة، وإن الثورة تحتاج لمجهود متعاظم لاستكمالها وتحقيق أهدافها كاملة، وعلينا أن نسهر عليها حكومةً وشعباً، وكما شهد العالم مواكبنا السلمية واحتفى بانتصاراتنا، علينا أن نثبت أننا لن يهدأ لنا بال حتى نصل بها إلى النصر المبين.

عاش نضال الشعب السوداني والمجد للشهداء والشفاء للجرحى والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

سونا

Exit mobile version