أواسط سبعينات القرن الماضى أقام الحزب الجمهورى معرضا لكتب وأقوال زعيمه محمود محمد طه بميدان أبوجنزير بالخرطوم ..
حين زرته وقفت مليا عند قوله عن نفسه (ليلة أسري بى .. إنتسخ بصري فى بصيرتى .. فرأيت الله فى صورة شاب أمرد .. فوضع يده على كتفى .. فاستشعرت برودة الذات الإلهية .. فقال لى .. أتدرى فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمود .. قلت أنت ربى أعلم .. فعلمنى ثلاثة علوم .. علم أمرت بتبليغه (الرسالة الثانية) وعلم خيرت فى تبليغه (وهذا أخص به أناس دون آخرين) وعلم نهيت عن تبليغه (لأن الله يعلم أن لا أحد سواى يطيقه) ..
عندها إستشعرت برودة الشيطان تسرى فى عروقي فوليت هاربا من ذاك المعرض وتركت رفقتى يجوسون فيه حتى إذا ما وقعت أعينهم على الإدعاء أعلاه فعلوا مثل ما فعلت فرارا بدينهم .. ومن يومها ذبح الكلب بيننا وبين أتباعه وكتبه وشخصه ..
بعدها بعامين أو ثلاثة جاء الأستاذ محمود كما يسميه أتباعه أو (الرجل الإله) كما نسميه نحن وفقا لما قال عن نفسه أنه (الإنسان الكامل الذى يحاسب الناس يوم القيامة) جاء فى زيارة إلى عطبرة التى مكث بها أسبوعا كاملا حيث كان له لقاء مفتوحا ويوميا بمقر إقامته ببيت إحدى تابعاته يبدأ من بعد صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء وكان أحد أساتذتنا (صاحب أدب و وقار) يدعونا للذهاب و الإستماع للأستاذ كفاحا ..
كنا نذهب حياء من أستاذنا مع خوفنا من ذلك الرجل الإله .. لقد كان حوش البيت يمتلئ على سعته حتى يجلس البعض على السور وآخرين وقوفا عند الباب والأستاذ الذى كان يلبس على الدوام عراقى وسروال وطاقية يجلس على كرسى ونحن جلوس على البروش والرجل يسهب يوميا فى شرح دعوته (الرسالة الثانية) التى تقوم على نسخ (القرآن المدنى) الذى يؤسس للشريعة والمعاملات الشرعية التى قال عنها الهالك محمود أنها لا تصلح للقرن العشرين .. مع إعترافه فقط بالقرآن المكى الذى يتحدث عن العقيدة ويؤسس لها ..
لقد كانت له طريقة تقريرية خادعة وجاذبة حيث يسوقك إلى حتفك رغم أنفك وأنت ضاحك إن لم تكن مستبشرا (حتي كدنا نركن إليه لولا أن ثبتنا الله) رغم رؤيتنا له يوميا حين يؤذن لصلاة المغرب يتركنا ويدخل لغرفة خصصت له ويغلق بابها عليه ولا يعود إلينا إلا بعد فراغنا من صلاتنا ليواصل حديثه وكأن شيئا لم يكن و ما كنا ولا غيرنا يجرؤ على سؤاله أو إستنكار فعله ..
حتى كان ذلك اليوم الذى نجانا الله فيه من محمود وملائه .. فما كاد الآذان ينتهى حتى هب واقفا كعادته ليدخل غرفته حين إعترضه من إذا رأيته حسبته تاجر أغنام لا يفقه فى الدين ولا يفهم فى الدنيا زول (حنكو قوى وحجتو أقوى) حين صاح به .. يا محمود ماشى وين .. ومحمود (حافة كدى) تقلقل أتباعه بأكثر مما تفعل حروف القلقلة الخمسة ..
لقد توتر الجو ولم نعد نسمع إلا همسا .. فقال محمود مرحبا يا أخى .. فقال الرجل أنا سمعت قالوا أنت ما بتصلى عشان كدى جيت أتأكد براى وأصلى وراك .. فقال محمود إذن أحدثك عن الصلاة بعد أن تصلوا .. فقال الرجل بل حدثنا عن الصلاة قبل أن نصلى حتى نصلى على بينة .. قال محمود يصلى بكم شيخ ناجى .. فقال الرجل بل تصلى بنا أنت كبيرنا وشيخ الجميع ..
عندها أقام احدهم الصلاة فانفلت محمود الى داخل الغرفة وانفلت الرجل الى خارج الدار .. وصلينا صلاة كلها توتر وترقب لما بعدها من قصف نتوقعه أشد ضراوة بين الطرفين ..
وخرج محمود من خلوته متسائلا عن الرجل فأخبروه بأنه قد ذهب مغاضبا فتحسر عليه و قال ليته صبر ليعرف شيئا عن الصلاة وهل هي غاية فى حد ذاتها أم هى وسيلة نتقرب بها لله .. فقلنا جميعا إنها وسيلة نتقرب بها لله تعالى ..
عندها تبسم ثم ضرب لنا مثلا بقوله إن أردنا السفر للخرطوم فأى وسيلة نسلك .. قال بعضنا بالقطار وقال آخرون باللوارى وقال غيرهم بالطائرة .. وهكذا .. فقال لأننا فى عطبرة عاصمة السكة حديد دعونا نركب القطار للخرطوم ولكن حين نصل الخرطوم هل نأخذ القطار معنا أم نتركه فى محطته فقلنا بصوت واحد بل نتركه فى محطته .. قال تلك هى الصلاة الحركية التى نصليها ونتخذها وسيلة تقربنا لرضوان الله الأكبر حتى إذا بلغناه تركناها بمثل ما تركنا القطار فى محطته وعندها تصبح صلاتنا (صلاة الروح) لا صلاة الجسد (حيث لا ركوع فيها ولا سجود لها) وتلك مرحلة لا تستطيعون إستيعابها إلا ببلوغها .. (مرحلة الرضى الإلهى المطلق) حيث تكون (إرادتك إرادة الله) وتكون (قدرتك قدرة الله) وتكون (أنت الله) …
عندها أسقط فى أيدينا وزاغت أبصارنا وسقطت قلوبنا تحت أقدامنا وحار بنا الدليل .. وإستشعرت مجددا برودة الشيطان تسرى فى عروقى .. وأطبق علينا صمت مهيب حتى نهض له من بيننا رجل أشعث أغبر رث الثياب لا تشتريه (بطرادة) ..
فقال .. أفتكر يا أستاذ محمود أن تلك درجة عالية لا ينالها إلا من يستحقها صدقا وعدلا وإستقامة .. فقال محمود والبشر يكسو وجهه نعم تلك درجة عظيمة لا ينالها إلا الصادقين .. فقال الرجل إذن كيف لم يبلغها المتبوع صاحب الرسالة الأولى محمد رسول الله صل الله عليه وسلم الذى كان يصلى صلاتنا هذه حتى وفاته بل قال (صلوا كما رأيتمونى أصلى) كيف لم يبلغ هذه الدرجة بينما تبلغها أنت التابع يا محمود ..
عندها إرتبك محمود وتلعثم وهمهم بكلام غير مفهوم ثم عجز عن الإجابة وطفق يهذى وينفعل وهو المشهور بالحلم والوقار والهدوء ..
والحكاية جاطت وتعالت الأصوات وتدافعنا نحو الباب ك(حمر مستنفرة) .. وتفرقنا بالشوارع والأزقة ك(جراد منتشر) ..
ومن يومها ما قرأت له كتابا ولا حضرت له مجلسا ولا إستمعت له حديثا بالأصالة أو الوكالة ..
وما سرنى خبر بمثل ما سرنى خبر إعدامه .. إعدامه الذى كان بعض أتباعه يظنون أنه لن يتحقق أبدا كون الرجل معصوم ولن يناله الموت لأنه (الله الذى يحاسب الناس يوم القيامة) حسب قوله عن نفسه وإيمان المتطرفين من أتباعه به .. أما الأقل تطرفا فكانوا يرون أنه لن يموت قبل إستكمال رسالته ..
وظلوا يبثون هذه الأقوال بين الناس حتى تخيل للبعض أن حبل المشنقة سينقطع .. أو أن البئر لن تنفتح تحت رجليه .. أو أنه سيطير بمشنقته على مشهد من الحاضرين الذين إمتلأت بهم الساحة وانقطعت أنفاسهم حين كشف لهم عن وجهه و وضع الحبل حول عنقه ..
وتوتر الجو فلا تسمع إلا همسا .. وتوقعوا المعجزة وانتظروا الكرامة .. لكنه تدلى ودار بحبله حول نفسه عدة دورات ليستقر و وجهه تلقاء المغرب ..
عندها تنفس أخوة لى كانوا شهودا بدعوة من بعض أتباع محمود الذين بثوا فى الناس إنتظار معجزة أو كرامة ينجو بها رسولهم أو إلاههم .. ولما لم يتحقق شىء من ذلك قال بعض إخواننا لبعض أتباعه ماذا تقولون الآن .. فقالوا بكل برود (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) …… ولا يزالون منتظرين عودته لإكمال رسالته ..
لقد أحزننى تجمع بعض صغار البارحة ممن لم يروه أو ولدوا بعد هلاكه وهم يحملون عريضة تطالب بإلغاء حد الردة ..
أتراهم ينتظرون عودته أم تراهم يريدون أن يأمنوا على أنفسهم ليفعلوا مثل ما فعل (الإله أبوطاقية) حسب تسمية أخى الشهيد محمد طه محمد أحمد له ..
جزى الله خيرا الرئيس جعفر نميرى والشهيد حاج نور ومولانا المكاشفى طه الكباشى الذين جنبوا البلاد والعباد فتنة فى الدين بإسم الدين لا تبقى ولا تذر وذلك باعدامهم لهذا الذنديق الدعى المدعى (دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة) وأى ضرر أكبر من الفتنة فى الدين ..
قال عنه الأب فليب عباس غبوش الذى كان يشاركه الزنزانة وقد أفرج عنه النميري بعد إسترحامه وتعهده بعدم العودة للفتنة التى كان يسعى بها بين المسيحيين والمسلمين ..
قال جاءنى ثلاثة من العساكر فى بيتى بعد أيام من إطلاق سراحى وطلبوا منى مقابلة النميري فورا .. فقلت يا جماعة والله أنا من البيت دا ما مرقت ولا قلت كلمة واحدة .. لكنهم لم يستمعوا لى وأخذونى عنوة .. وطوال الطريق أقول لنفسى (نميرى دا جنت وإلا شنو .. وإلا أولاد الحرام ديل يكونو وسوسو ليهو) وأدخلونى عليه مرعوبا ووجدته متربعا فبادرته (يا ريس والله ما قلت أى حاجة وما عملت أى شى) فقام وسلم على بالأحضان وأجلسنى إلى جواره وقال لى (دايرك فى مهمة خاصة) عندها ذهب الروع عنى وابتلت عروقى وسكنت عيونى .. فقلت كان كدى أنا جاهز يا ريس .. قال لى عايزك تمشى تتكلم مع الحيوان دا (محمود محمد طه) يرجع من ضلالاتو دى وإلا حا أكتلوا ..
وجلست بقية نهارى وبت ليلتى تلك معه فى الزنزانة وأنا أراجعه ..
يا محمود خليك زول عاقل الزول دا حا يكتلك ..
يا محمود ألعب بوليتيكا وإتخارج الزول دا حا يكتلك ..
يا محمود خليك زى كدا وإتخارج قبل ما الزول دا يكتلك ..
لكنه كان أحمقا وعنيد .. وعدت لنميرى وأنا حزين (يا ريس ما فيش فايدة .. الزول دا راسو ناشف) ..
وقتله نميرى بتلك الصورة المشهودة .. وأماته على سوء الختام وبموته ماتت ضلالاته وتفرق أتباعه أيدى سبأ ..
جزى الله خيرا الرئيس جعفر نميرى الذى سحق بذاءات الحزب الشيوعي وضلالات الحزب الجمهورى وأراح منهما البلاد والعباد إلى الأبد ..
فيا معشر غلمان تجمعوا البارحة لإحياء ضلالاته (شوفو ليكم شغلانة تانية إشتغلوها) .
جعفر بانقا
اعادة نشر للمقال بتاريخ
20/1/2015