مُوازنة الأمن والدفاع.. بين الرفض والقُبُول

سَتَكُون المُوازنة المُقبلة 2020م تحدياً عسيراً على حكومة حمدوك الجديدة، وهي أصعب مُهمّة تنتظرها، قياساً على تبعات إرثٍ ثقيلٍ من الانتكاسات الاقتصادية لا تبدأ من افتقار البلاد لموارد حَقيقيّة لتمويل هذه المُوازنة ولا تنتهي بتدهُور العُملَة الوطنية، وفي وقتٍ كان مُتوقِّعاً أن تشهد المُوازنة المُقبلة تغييراً جذرياً واختلافاً عمّا سَبقها من مُوازنات، إلا أنّ وزير المالية قال إنّ “الأولوية ستكون لمُوازنة الأمن والدفاع” فما دلالات هذا التصريح، وقبل ذلك مَدَى منطقيته ومُناسبته للأوضَـاع التي تَمُــر بها البِـــــلاد..؟
أولوية للأمن والدفاع
وخلال حديثه مع الإعلام، أكّد وزير المالية والتخطيط الاقتصادي د. إبراهيم أحمد البدوي بمنح الأولوية للأمن والدفاع في ميزانية العام المقبل، وقال في اللقاء إنّ جهاز المخابرات العامة سَيظل موجوداً شأنه كشأن أجهزة المُخابرات في العالم باعتباره مرتكزاً للأمن السوداني، مشيراً إلى تغيير طبيعة عمله، وأعلن البدوي أنّ الموازنة للعام القادم تعكس أولويات الدولة، ونوه إلى تقييم أداء موازنة العام الحالي واستيفاء مُوجِّهاتها للاستفادة منها في المُوازنة المُقبلة.

عوامل منطقية
ويحوي حديث الوزير جوانب منطقية، حيث تُواجه البلاد وضعاً يشوبه عدم الاستقرار مع وجود قِوى مُسلّحة غير راضية عن هيكل الحكم، كما تُواجه البلاد هجرات غير شرعية كثيفةٍ من حُدُودٍ مفتوحةٍ يصعب السيطرة عليها، وهي عوامل تجعل من المنطقي جعل الأمن والدفاع في صدارة الاهتمامات، وهو المناخ الذي يُؤدِّي لجذب رؤوس الأموال والاِستثمارات التي لا تُخاطر للعمل في بيئة غير مُستقرّةٍ، وبالمُقابل يمكن للحكومة استثمار القبول النسبي الذي يتوفّر لها في التوصُّل لتفاهُماتٍ مع الحركات المُسلّحة والوصول إلى السلام النهائي، وهو مطلبٌ ليس بعيد المنال.
أعلى إيرادات
بنظرة لمُوازنة العام الجاري التي تم تقديمها خواتيم العام 2018م، نجد تخصيص 13% من جُملة الإيرادات المُتوقّعة للأمن والدفاع، وهي نسبة أقل مِمّا كانت في العام السابق له 2017م، حيث شملت مُوازنة العام الجاري التي قدّمها وزير المالية السابق معتز موسى، خفض مُوازنة الأمن والدفاع من 16% من إجمالي الموازنة إلى 13%.. وقُوبلت تلك الموازنة حينها بانتقاداتٍ مُكثّفة من نُوّاب البرلمان، مُعترضين على استئثار قطاع الأمن والدفاع بالنصيب الأكبر من الميزانية على حساب التعليم والصحة، وهاجموا الشركات التابعة للأجهزة النظامية والأمنية، وطالبوا رئيس الوزراء بإحاطة البرلمان بعددها والإفصاح عن ميزانياتها، وحينها برّر رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية معتز موسى، الإنفاق على الدفاع والأمن باعتبار أنّ الأجهزة السيادية والجيش والشرطة والأمن لا يُمكن إسنادها للقطاع الخاص عكس القطاعات الأخرى، وقال إن الوضع سيستمر على هذا الحال لأنّها المُعادلة السليمة التي يجب أن تكون.

وطوال السنوات الماضية، أولت الحكومات المُتعاقبة في نظام الإنقاذ، مكانة غير قابلةٍ للمساس، وكانت المُوازنات المُخَصّصة للأمن والدفاع تتصدّر بنود المُوازنة رغم تنامي الأصوات المُطالبة بمُراجعة الأمر وزيادة الاهتمام بالقطاعات الخدمية كالصحة والتعليم والإنتاج الزراعي والصناعي، وتُبَرِّر الحكومات السابقة ارتفاع موازنة الأمن والدفاع بأنّها قضية استراتيجية تتعلّق بالأمن القومي، كما أنّ الشأن العسكري لا يُمكن إدارته عبر القطاع ولا مَناص مِن تَمكينه لأداء واجباته على الوجه الأكمل.

مُبرِّرٌ منطقيٌّ
العميد (م) البخيت عليوة، الذي خدم سنوات بالقوات المسلحة، وصف حديث وزير المالية بمنح الأولوية في المُوازنة للأمن والدفاع بأنّه قرارٌ صائبٌ نظراً لما تُواجهه البلاد من تحدياتٍ أمنية، موضحاً أن هذه الموارد تذهب للأمن القومي وليس لجيوب الأفراد العاملين.
وقال عليوة لـ(الصيحة)، إن مُوازنة الأمن والدفاع لا تُصب في جيوب العاملين في الأجهزة الأمنية بمعنى زيادة في رواتبهم، ولكن لمُواجهة التّرتيبات الأمنية وصرف كثيرٍ غير منظور “برنامج دي دي آر” على سبيل المثال وهو إعادة التأهيل والتسريح والدَّمج حتّى نَخرج بقواتٍ مُسلّحةٍ قوميةٍ وأجهزةٍ نظاميةٍ مُنضبطةٍ، وكل حاملي السلاح غير المرغوب فيهم يوجد لهم وسائل لكسب الرزق حتى لا يُواجه البلاد تمرد جديد يزعزع الأمن أو تظلُّمات جديدة، إذا لم نُوقف الحرب ونُحَقِّق السلام الدائم فلن تنفذ أيّة ميزانية، لأنّ أغلب الميزانيات التي تُوضع تفشل بسبب الأزمات والإضرابات الأمنية، مُشيراً إلى أنّ نجاح أيّة ميزانية مُرتبطٌ باستقرار الأحوال الأمنية، وأيِّ نمو اقتصادي في بلد مربوط بالأمن، فهو الذي يُشجِّع المُستثمرين الأجانب للحضور، لأن صاحب رأس المال جبانٌ فهو لا يجازف بماله مهما كانت المُغريات، وقطع عليوة بأنّ الفترة الانتقالية الأولوية الأمنية مهمة جداً، ومن ثم تأتي بعدها قطاع الزراعة، بجانب الضرب بقوة على أوكار الفساد وضبط الصرف الحكومي.

استثمار العسكر
لا خلاف بين مختصي الاقتصاد على ضرورة الأمن وجعله في مقدمة بُنُود المُوازنة، بيد أن الأمر لن يكون كما كان يحدث في ظل الحكومة السابقة، مُشيرين إلى أنّ المُؤسّسات العسكرية والشرطة والأمن تملك جميعها استثمارات ضخمة تقوم بتشغيلها دُون توريد عائدها في الخزينة العامة، ورغم مُطالبة عددٍ من النُّوّاب بالبرلمان السابق بإخضاع تلك الشركات لسلطة الدولة وتمكين وزارة المالية من الولاية على أموالها باعتبارها مالاً عاماً، إنها ظلت بيد تلك المؤسسات.
والثابت أنّ تلك الاستثمارات تدر مبالغ مالية لا يُستهان بها، مِمّا يعني أنّ دعمها لن يكون بمستوى الضخامة التي كان عليها خلال السنوات الماضية، خاصّةً وأنّ الفترة المُقبلة تأتي في ظل حكومة انتقالية تجد قبولاً أكثر مِمّا يقلل عنها حجم التوترات خاصّةً من الحركات المسلحة.
دعم الأمن والاقتصاد
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي د. عادل عبد المنعم، إنّ تخصيص موارد الأمن والدفاع لن يجد اعتراضاً من أحدٍ، ولكن في نفس الوقت لا يعني إهمال الحكومة للقطاعات الاقتصادية التي ترفع الإنتاج وتَسهم في تحسين اقتصاد البلاد، وقال إنّ المُؤسّسات العسكرية في العالم تتوافر لديها استثماراتٌ ومشاريع شركات، وهي تُنفِّذ طُرقاً وجُسوراً، مُضيفاً: “نحن في السودان نجد أنّ المُؤسّسة العسكرية تمتلك أكبر مصرفٍ هو “بنك أمدرمان الوطني”، الذي لديه أرصدة كبيرة تتدبّر من خلالها رواتب القوات المسلحة.

لا مُشكلة
ويقول الخبير الاقتصادي د. عبد العظيم المهل، إنّ إعطاء الأمن والدفاع الأولوية في المُوازنة ليس هو المُهم، بقدر ما يهم الإجابة على تساؤلات عن خُطط دعم وتطوير القطاعات الاقتصادية المُختلفة وإصلاح السِّياسات التي أوصلت البلاد إلى مرحلة تتواضع فيها المُوازنة لحدٍّ لا تجد فيه القطاعات الخدمية نصيبها الكافي من الموارد.
وقال المهل لـ(الصيحة)، إنّ تصدُّر الأمن والدفاع لبنود المُوازنة لا يُشكِّل مُشكلة في حال تمّ إيلاء العناية بذأت القدر بالقطاعات المُنتجة وتحسين معاش الناس ودعم الخدمات العامة كالصحة والتعليم، مُشيراً إلى أن التحديات التي تُواجهها الحكومة الحالية أقل مِمّا كان في السابق، وبالتالي ستكون هذه ميزة لها لتتمكّن من تنفيذ المشروعات التّنموية ودعم الاقتصاد وإجراء الإصلاحات التي لا تحتاج لموارد مالية بقدر ما تحتاج لقراراتٍ جريئةٍ تُلامس جُذُور المُشكلة الاقتصادية وتؤدي لمُعالجتها.
مُشكلة قديمة
وطوال السنوات التي تلت الاستقلال، ألقت التوترات الأمنية بأثرها السالب على اقتصاد البلاد، ويعزو كثير من المُختصين، عسكريين واقتصاديين، سبب تردي الاقتصاد السوداني لعدم توافر الاستقرار الأمني بالقدر الذي يُتيح للحكومات تقديم التنمية.
وهنا يُشير الدكتور عبد الله الرمادي في حديث لـ(الصيحة) إلى أن الحرب هي الأكثر استنزافاً للموارد، ولا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية بغير إحلال السلام الشامل، وقال الرمادي إنّ المُؤسّسة العسكرية السودانية قد تكون الوحيدة في العالم التي ظلّت تُحارب طوال الـ63 عاماً دُون انقطاع، دون حدوث استرخاء كامل للقوات المسلحة، وتفسر هذه الجزئية حجم التحديات التي تُواجهها البلاد في الجانب الأمني، مما يستلزم حل معضلة الحرب وإحلال السلام.. بطبيعة الحال، سترث الحكومة الجديدة ذات المعضلات التي أطاحت بسابقتها، بسبب شُح موارد الموازنة وما أحدثته من اختلالات إضافية على الوضع الاقتصادي، ويبدو حلم الوصول إلى مرحلة ما قبل 2018 بعيد المنال، ففي ذلك الوقت لم يكن الدولار يتخطى حاجز 20 جنيهاً، وتضاعف بنسبة أكثر من 125%، وقريباً من تلك النسبة تَصاعدت النسبة حتى بلغت 68% في وقت لم يكن يراوح حاجز الـ32% لذات الفترة.

تقييم مؤجل
وترى الخبيرة الاقتصادية د. إيناس إبراهيم أنّ تقديرات وملامح الموازنة الجديدة أمر سابقٌ لأوانه، وقالت إن تحليلها متروك لحين تحديد بنود الصرف سواء على الأمن والدفاع ومُقارنته ببقية القطاعات، وتوقعت أن تكون أفضل من السابق، وتشير إيناس إلى أن المحك الفعلي يتمثل في النجاح في إنزالها على الأرض، وقالت لـ(الصيحة) إنّ أهم مقومات فعالية المُوازنة أن تتضمّن تقليل الصرف الإداري، مُعتبرةً أنّ كثرة الصرف على الجوانب الإدارية من السلبيات الكُبرى التي مُنِيَ بها اقتصاد البلاد، داعيةً للاستفادة المُثلى من الأموال المُخَصّصة للصرف غير المُنتج، واعتبرت دعم المشاريع المُنتجة أكثر جدوى من الصرف الإداري غير المُنتج، واستبعدت تحقيق المُوازنة نتائج إيجابية للمُواطن، في ظل عدم تقليل الصرف الإداري، وتساءلت عما ستقدمه المُوازنة للمشاريع الإنتاجية وتمويل مشاريع صغار المُنتجين الذين يمكن اعتبارهم قِوى اقتصادية في حال تم الاهتمام بها بصورة كافية وإيلائها الدعم والرعاية اللازمة، واعتبرت أن الأولوية في الصرف يجب أن توجه نحو القطاعات المنتجة التي تحقق فائضاً في الدخل، وتسهم في رفع المستوى المعيشي للمواطن، داعيةً للاهتمام أكثر بالقطاعين الزراعي والصناعي باعتبار أن البلاد تمتلك مقومات نجاح هذين القطاعين خصوصاً الزراعة.
ويشير مختصون إلى أنّ أبرز تحديات الموازنة الجديدة هو تركيز الاهتمام على معاش الناس، وضبط الأسواق بإجراءات إدارية صارمة تمنع التلاعُب في التسعيرة ومُحاربة المُضاربات في السلع الأساسية، أما الأهداف الكبرى مثل وزن الميزان التجاري وزيادة الصادر عبر زيادة الإنتاج فتلزمها سنوات من العمل المُستمر والجاد ولا تَتَحَقّق في عَامٍ وَاحِدٍ.

الصيحة

Exit mobile version