مولانا، هذه محاكمة رئيس جمهورية، احتمال لا نحن تاني نترافع عن رئيس ولا إنت تحاكمه” بهذه العبارة أنهى ممثل هيئة الدفاع هاشم أبوبكر الجعلي التماس إضافة شهود جدد نظراً لتطور مسارات القضية. ابتسم القاضي قليلاً وافتر وجهه باقتضاب قبيل تلاوة قرار الموافقة المشروطة، ما يعني أن القضية ربما تأخذ منحى جديداً، أشبه بسلسلة الجليد والنار في صراع العروش، والتي تقوم بالاحتفاظ بالمفاجأة للنهاية، وربما أيضًا خلط الأحداث وتكثيف الغموض لبداية موسم جديد.
في الوقت المحدد، العاشرة صباحاً، دلف الرئيس السابق، المتهم الحالي، إلى داخل قفص المحكمة، وهو يتأمل تفاصيل الزمن والرحلة، تحيط به حراسه مشددة من القوات الخاصة، ظلت في حالة تحفز دائم، بينما المدينة في الخارج كدأبها غرقت في جدل خطاب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، الذي تلاه في مناسبة على شرف اجتماعات الأمم المتحدة، بلسان غير عربي، وكانت قاعة الأمم المتحدة قد بدت للكثيرين شبه خالية، باستثناء زغرودة شقت طريقها في بلاد العم سام، على خلاف محاكمة البشير، التي شهدت هذه المرة تزاحماً في الوجوه والمطالب، والمشير كما يبدو بلا نياشين، يتحمل لوحده وطأة حنينه للقصر المفقود .
يا سيد هذه مرافعة
بدأ المشهد اعتيادياً، القاضي الصادق عبد الرحمن بسمته الوقور يستفتح الجلسة، على يمينه بالطبع أعضاء النيابة، وفي الباحة التالية هيئة الدفاع والأسرة مأخوذة بالأمل والألم، وعلى أقصى اليسار، بالضبط سياجاً حديداً محكم الإغلاق يجلس داخله البشير، بوجه يلمع تحت النور الذاوي، وأقدام متعبة من المشي والهبوط، تقريباً مُذ كان ضابطاً في المظلات، حتى وهو يواجه اليوم قدره العنيد.
تقدم هاشم أبوبكر الجعلي الذي عركته سنوات العمل القانوني وحيل أصحاب الروبات السود، بجملة طلبات، أثارت لنحو عشر دقائق تقريباً حالة من السجال بين القاضي وهيئة الدفاع، أهمها المطالبة باعادة تلاوة الاتهام، حيث اقتضى ذلك حذف المحكمة بعض المواد، مثل تجريم الاحتفاظ بعملة أجنبية، لأن القانون أوجب على المحكمة، وفقاً للجعلي، تلاوة ورقة الاتهام المعدلة على موكلهم، الرئيس السابق، وأخذ رده عليها، ملتمسين إعمال النص الوجوبي للمادة المشار إليها، لأن رد المتهم عليها، تترتب عليه طلبات سوف تقدمها هيئة الدفاع، وقبل أن يمضي الجعلي في استرساله، قاطعه القاضي ” يا سيد هذه مرافعة” .
هنا تدخلت النيابة، ورددت بصوت الاتهام ” النص جوازي وليس وجوبي” يلزمني هنا، انا كاتب التقرير، أن أطلب من المختصين، شرح معنى وجوبي وجوازي، وقد استعنت بمؤشر البحث قوقل، فلم يجبني بالدقة المطلوبة، طلبت رأي أحد القانونيين، فقال لي أن كلمة وجوبي تعني أنه يجب على القاضي أخذ المادة التي تتحدث صراحة عن إعادة تلاوة التهمة بعد تعديلها، يجب عليه أن يفعل ذلك بصورة قاطعة، أما النص الجوازي فهو يجوز للقاضي الأخذ بما يرى، وبالتالي فالوجوبية هنا ملزمة، كما يصارع لاثباتها الدفاع .
سابقة رندة سوركتي
القاضي قام بمراجعة بعض المواد من كتيب كان يربض تحت نظارته المتعبة من التحديق، وأشار إلى أن حذف مادة حيازة النقد الأجنبي تم بأثر رجعي على خلفية قرار الطوارئ الصادر من المجلس العسكري في يوليو 2019 إلى جانب ذلك فهو لا يرى داع لإعادة تلاوة الورقة المعدلة، طالما أن المحكمة لم تستحدث تهمة جديدة، وقطع القاضي بأن النص ” وجوبي وليس جوازي” لأن المادة نفسها تتحدث عن إعادة الصياغة في ورقة الاتهام، و”هذا ما لم نقم به” .
أما الطلب الأخر فكان يتعلق بتوضيح التهمة، الموجهة للبشير بالضبط، بعد قرار الابقاء على مواد الاتهام من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، لأن المادة (6ج) كما جاءت في القرار مطلقة وغير محددة، إذ لم توضح المبلغ الذي أثرى به البشير، ثراءاً حرماً، أو مشبوهاً، نسبة لأن التهم استندت على مادتين متناقضتين، فالثراء وفقاً لهيئة الدفاع أما أن يكون حراماً، أو مشبوهاً، عطفاً على أن تحديد مبلغ الاتهام أمراً واجباً، وأوضح الجعلي أنه جاء في قضية الاتهام على لسان المتحري فقط، تفاصيل المبلغ المضبوط بمكاتب بيت الضيافة، بعد نقل البشير إلى سجن كوبر، فيما ورد في سابقة قضائية، ضد (رندة عثمان سوركتي) بأن إغفال المبلغ مثار الاتهام يؤثر على نتيجة الحكم، وهنا تساءل البعض، هل ستفتح سابقة رندة باباً لبراءة البشير؟ هذا ما سنراه في رد القاضي النهائي على هذه الإشكالية .
المتهم الرئيس أم الموظف ؟
أصر القاضي على رفض إعادة تلاوة التهمة ضد البشير، وأصرت هيئة الدفاع على أن إغفال ذكر المبلغ اغفالاً لعنصراً جوهرياً في القضية، لأن موكلهم حدد المبلغ ب(25) مليون دولار، بينما الاتهام أشار إلى 7 مليون وأغفل البقية، فضلاً على ذلك ثمة حاجة إلى إعادة تعريف المتهم، هل هو موظف عام أم رئيس جمهورية، كما حددت المادة؟ لأن التهمة غير واضحة ويحيط بها الغموض، وهنا أنفجرت القاعة مجدداً بالضحك عندما استدرك المحامي أبوبكر الجعلي بعد أن خاض في جدل طريف مع القاضي ” مع تقديرنا لك، أنت أغذر منا علماً” فرد عليه القاضي ” أنا ما أغذر منك، أنا معاك واحد” قالها بطريقة ساخرة، لكن في النهاية خضع الدفاع إلى رأي المحكمة، التي طالبت بالاستمرار في سماع الشهود .
أين عبد الحي يوسف ؟
بالفعل تقدم الشاهد الأول، المستشار القانوني لقناة طيبة مصعب محمد أحمد، معرفاً القناة بأنها فضائية خيرية تعمل في مجال الاعلام وتنمية المجتمع السوداني، وتسعى إلى نشر القيم الفاضلة وتعاليم الدين الاسلامي داخل وخارج السودان، وقطع بأن المتهم” عمر البشير” ليس له علاقة بقناة طيبة، مؤكداً أنهم تسلموا مبلغاً من الرئيس السابق قدره مائة ألف يورو، ذكر انه “لصالح ميزانية الأقمار الصناعية” وحد تاريخ استلام المبلغ وهو نوفمبر 2018 أي قبل شهر من اندلاع الثورة التي أنهت حقبة البشير.
بعد وقت وجيز من التداعي سأل الاتهام الشاهد : هل عندك علاقة بالعمل الاداري؟ فأجاب لا. من هم ملاك الأسهم ؟ الشاهد : ما مستحضر! واستطرد بحزم ” أنا ما جاي اشهد على الملاك” وعندما سئل عن مدير القناة، أشار إلى إسمين ” ماهر سالم وصلاح الدين النور” لكنه لم يجب على سؤال الشخص الذي طلب تبرع الرئيس، أو إذ ما كان المبلغ تم استلامه كاش أم شيك، واكتفى بالقول ” ما عندي فكرة” .. أما القاضي الصادق عبد الرحمن فقد اكتفى بطرح سؤالاً واحداً : ما علاقة عبد الي يوسف بالقناة؟ فرد الشاهد باختصار أيضاً ” عضو في القناة فقط” لست متأكداً، هل قال فقط أم اكتفى بتأكيد عضوية الشيخ الذي أثيرت حوالة عاصفة من الاستفهامات، ظل يتصدى لها من فوق المنبر وتحته .
السلاح الطبي يوضح
في لمحة عبرنا الشاهد الثاني بعد أن نده عليه الحاجب، كان صوت طلاب المدارس في الأنحاء بدا يتصاعد شيئاً فشيئاً، والقاعة برمتها غارقة في صمت مجلجل، سرعان ما قطعه صوت حذاء اللواء زكريا إبراهيم شاهد السلاح الطبي، الذي تحدث عن حصول مستشفى عليا على تمويله من وزارة الدفاع، وقال انه يسعى إلى توطين زراعة الكبد والكلى والنخاع الشوكي وبذل خدمات طبية مميزة، لكن الأمر تيسر فقط بعد الدعم الذي حصلوا عليه من الرئيس، وأقر باستلام مليوني يورو، و 250 ألف. وعندما سئل عن علاقته بتلك الأموال قال أنه ليس له علاقة بها، وقطع بأن مشروعات قسطرة القلب والأشعة المقطعية وزراعة النخاع الشوكي، تمت بناءاً على الدعم المقدم من الرئيس، وردد نفس أجوبة الشاهد السابق ” لا يهمني من استلمه، ولا أعرف هل هو شيك أم نقد” واتضح أن القاضي لسبب ما لا يريد توجيه أيما سؤال لهذا للشاهد .
ظهور حفيد النجومي
لم يتوقف ممثل الدفاع أبوبكر الجعلي من اطلاق المفارقات الساخرة، وبعد أن التقط أنفاسه ردد بصوت درامي ” نحن على كل حال قروشنا ال25 مليون دولار اكتمل أوجه صرفها، منتظرين المراجع العام” ودخل الشاهد الثالث يمشي في ذكرى قائد الثورة المهدية عبد الرحمن النجومي، الذي غزا مصر قبل قرن من الزمان، فهل هو الحفيد المنتظر لانقاذ الرئيس الحبيس؟ توقف القاضي أمام الإسم، النور مكرم عبد الرحمن النجومي، المفوض من ديوان المراجع العام، أوضح أن حسابات رئاسة الجمهورية يتم مراجعتها من قبلهم، وتقديم تقرير سنوي بذلك، لافتاً إلى أن الرئاسة لديها حسابين، واحد بالعملة المحلية والأخر بالعملة الأجنية، لضمان الصرف على وقود الطيران ومامورية الوفود الرئاسية، ونفى بالمرة إمكانية توريد مبلغ نقدي مليون يورو من حساب رئيس الجمهورية إلى جامعة افريقيا مثلاً، منبهاً إلى ملاحظة مهمة، وهى أن أموال الرئاسة التي تقررها المالية لا تحول نقداً، وإنما عن طريق الحساب البنكي، مؤكداً بأنه ليس من ضمن البنود المخصصة للرئتسة مثل تلك الدعومات .
وتحدث الشاهد عن الأموال المجنبة، خارج الموازنة، وقال أنها مخالفة لقانون الاجراءات المالية، وعندما سأله الدفاع، إذ كان قد تم مراجعة حساب جهاز الأمن والمخابرات؟ رد الشاهد بعدم المعرفة. وأضاف بأن هنالك حسابات خاصة بالرئاسة لا يقوم الديوان بمراجعتها، وأجاب كذلك على سؤال حول حسابات بيت الضيافة من يقوم بمراجعتها؟ فقال أنه لا يعلم، وذهب بالاجابة على سؤال القاضي هل الحساب الخاص عنده حصانة من المراجعة؟ رد الشاهد : أبداً لا حصانة. وإزاء أي أموال دخلت السودان، هبات وغيرها يفترض أن تذهب إلى أين؟ قال الشاهد: مفترض تدخل حساب وزارة المالية.
ثارت معركة أخرى حول شهود جدد، قال الدفاع أن ما ترى من تطورات استوجب احضارهم للشهادة أمام المحكمة، لكنه لم يوضح من هم، واكتفى بأن العدد أربعة شهود، وطلب مدة عشرة دقائق للتشاور مع المتهم، فرفض القاضي منحهم الفرصة داخل المحكمة، واستحالت الدقائق العشر إلى يوم مع اصراره على تحديدهم بالأسماء، في وقت قصير لا يتعدى اليوم الواحد، لأن سماع اضافة شهود بالاستثناء، لابد من أن يكون مسبباً ومعلناً وفقاً للقاضي .
سيرة طارق سر الختم
من المهم الإشارة إلى أن سيرة طارق سر الختم وردت مرة واحدة في هذه الجلسة باعتباره شريكاً في الاتهام، فهو كما يبدو يحمل أيضاً مفتاح اللغز الكبير، أي سر المبلغ المالي الذي عثرت عليه النيابه بالعملة المحلية داخل بيت الضيافة، وعليه علامة سين للغلال ؟ حتى الأن لا توجد إجابة قاطعة، لكن مسار مرافعة الدفاع الأخيرة لسد هذه الثغرة، غالباً يملك تفسيراً لذلك المال، وربما يكون جزءاً من دعم مستمر تقدمه سين لرئاسة الجمهورية، أو كما ورد في رواية الرئيس نفسها أن طارق اشتكى له بأن شركة سين تساهم في تغطية النقص من الدقيق أكثر من الشركات الأخرى، ومن بينها سيقا التي تلقت دعماً مباشراً من مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق الفريق صلاح قوش، الذي استدعى المطاحن وقتها وطلب منها عدم شراء النقد الأجنبي، على أن يقوم هو بتوفيره من مكان ما، وتم الاتفاق مع المطاحن أن توفر كاش بالعملة المحلية للجهاز، وهو يقوم بالمهمة، وخص قوش أسامة داؤود بالنسبة الأكبر من الدعم الدولاري (5 مليون دولار)، فنهض طارق سر الختم شاكياً للرئيس محاباة سيقا على حساب سين، ما اضطر البشير، وفقاً للرواية المبذولة على التدخل كوسيط بين الجهاز وطارق، خصوصاً وأن العلاقة بين قوش وطارق سر الختم لم تكن جيدة لسبب ما، فحرص الأخير على إرسال الأموال بالعملة المحلية إلى الرئيس، ليقوم البشير بتسليمها للجهاز، بيد أن الوقت لم يسعفه، وانقضت عليه الاحتجاجات الهائلة، دون أن تكون ثمة تجارة بالعملة، بين الرئيس السابق وشركة يبدو أنها تعاني أيضاً من حرب مستعرة داخل سوق الدقيق، أو كما حرص المتهم على توضيح ذلك في الجلسات السابقة ” لم تحدث مخالصة بالمبلغ الذي يخص سين” .