ليس المأزق الراهن الذي يواجهه نظام عبد الفتاح السيسي في مصر مجرّد إعادة إنتاج حالة الاستقطاب التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس الشرعي والمنتخب، الراحل محمد مرسي، بقدر ما أصبح عنوانا لإفلاسٍ شاملٍ ومدوٍّ لهذا النظام الذي تعوزه الشرعية السياسية والأخلاقية.
وعلى الرغم من أنه يحاول جاهدا، من خلال إعلامه الفاسد، تأطير المظاهرات التي اجتاحت مدنا مصرية نهاية الأسبوع المنصرم، ضمن هذا الاستقطاب الذي يختصر الأزمة في ”صراع وجود” يخوضه ضد ما يسميه ”إرهاب” جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن المشهد يتجاوز هذا الخطاب الذي لم يعد ينطلي على شرائح واسعة من الشعب المصري، في ظل حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي التي يشهدها البلد منذ ست سنوات.
وبصرف النظر عن دور الفيديوهات التي بثها الفنان والمقاول محمد علي في إطلاق شرارة هبة 20 سبتمبر/ أيلول، فمن المرجح أن هناك صراع أجنحة داخل النظام المصري، يُغذّيه تقلص القاعدة الاجتماعية للأخير، وتردّي الخدمات العامة، وارتفاعُ نسبة البطالة والفقر، وغيابُ أي أفق إصلاحي على المدى القريب. بمعنى أن هناك قوى داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية أصبحت ترى في السيسي عبئا سياسيا ثقيلا، وأنه صار خطرا على الدولة العميقة، بكل نفوذها وسطوتها، ولا سيما بعدما أخفق في إعادة هندسة المشهد السياسي بعد الشرخ الكبير الذي أحدثه انقلاب 2013، واجتراح نظام سلطوي يحفظ الحد الأدنى من الحراك السياسي المتحكّم فيه ويؤسّس لديمقراطية ”شكلية” على غرار ما كان الأمر عليه قبل ثورة 25 يناير، فالسيسي لم يكتف بإطاحة رئيسٍ منتخب بطريقة ديمقراطية، بل سجنه ومنع عنه العلاج متسبّبا في تدهور صحته، ما يجعل وفاة مرسي أقرب ما تكون إلى الاغتيال السياسي المدبّر. كما لاحق خصومه من مختلف التيارات والأطياف، وأعاد تشكيل الأجهزة الأمنية، مُزيحا من مواقع المسؤولية كل من يرتاب في ولائه له، وتنصّل من الوعود التي أطلقها عقب انقلابه الغادر، وتخلى عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، ناهيك عن أنه أصبح أحد عرّابي الثورة المضادة ورموزها في المنطقة.
وكانت النقطة التي أفاضت الكأس اعترافه ببعض ما نسبه إليه محمد علي في فيديوهاته المعلومة، خصوصا اعترافه بتشييد قصور رئاسية في استفزاز سافر لمشاعر المصريين الذين تعاني شرائح واسعة منهم شظف العيش وضيق ذات اليد. صحيحٌ أن العالم يعجّ بحكام مستبدّين وفاسدين، لكن معظمهم يتصنّع بعض الزهد والتعفّف مراعاة لمشاعر شعوبهم الغارقة في الفقر والبؤس. واعترافُ السيسي على هذا النحو بما قاله الفنان المصري يُقوّض أي شرعية مزعومة لنظام حكمه.
في ضوء ذلك كله، لا يستبعد أن يفضي التقاطب الحاصل في بنية النظام المصري إلى تشكل مراكز قوى جديدة تدعم، بطريقة أو بأخرى، المظاهرات المناوئة لبقاء السيسي في الحكم، وتعمل على توسيع قاعدتها الاجتماعية بهدف انتقالها إلى ثورة شعبية على غرار ثورة 25 يناير، الأمر الذي ربما يؤدي إلى تضييق الخناق على السيسي وزمرته، وبالتالي فقدانه دعم حلفائه في الداخل والخارج، ما قد يعجّل بتهاوي نظامه، كما حدث مع عمر البشير في السودان. ومن غير المستبعد أيضا أن يتم اجتراح صيغة توافقية يحتفظ بموجبها الجيش بنفوذه، مع إعادة بناء المشهد السياسي من خلال إطلاق حوار وطني شامل، والعفو عن المعتقلين السياسيين، وتحقيق العدالة الانتقالية، الشيء الذي قد يجعل إمكانية تكرار السيناريو السوداني في مصر أمرا واردا.
أهمية مصر في المعادلات الإقليمية، وتخوّف القوى الدولية الكبرى من انجرار هذا البلد إلى الفوضى وعدم الاستقرار، في ظل حالة الانسداد السياسي الذي تشهده، قد يرجّحان هذا السيناريو بصيغة أو بأخرى، خصوصا إذا استمر هذا التجاذب بين ما يبثه محمد علي من فيديوهات، وتواصل المظاهرات المطالبة برحيل نظام السيسي.
وتظل أكبر ضربةٍ تلقاها هذا النظام، في مظاهرات نهاية الأسبوع الماضي، سقوط جدار الخوف الذي اجتهد طوال الأعوام المنصرمة في تشييده مسخّرا إعلامه الفاسد، ولعل في ذلك ما يعزّز الانطبـاع بأن موجة ثانية من الربيع العربي في طريقها إلى المنطقة.
محمد أحمد بنّيس ـ العربي الجديد