-1- لو أعاد الرئيس السابق عمر البشير شريط ذكريات حكمه في زنزاته الشرقية بسجن كوبر، ولو استقبل من أمره ما استدبر، لعرف أن أهم أسباب سقوط حكمه- دون بواكٍ عليه- التصالح مع الفساد!
من الطبيعي وجود ممارسات فاسدة في أي نظام حكم، تزيد وتنقص.
من الطبيعي وجود مفسدين من علية القوم وولي الطول ،يكثرون أو يقلون، يغرفون من المال العام لأوعيتهم الخاصة.
ما هو غير طبيعي ويعد حالة مرضية تستحق العلاج، ضعف منظومة النزاهة وقصور الجهاز المناعي للدولة عن القيام بمهامه الدفاعية.
في ذلك الوضع تكثر التجاوزات وتستبد فيروسات الفساد بجسد الدولة فيصيبه الإنهاك والأعياء وتتدهور حالته الصحية.
الأخطر من الذي سبق أن تسيطر الفيروسات على الجهاز المناعي للدولة وتعيد توجيهه لمحاربة الخلايا السليمة في مقابل التصالح مع الخلايا المريضة.
هذا ما حدث في الفترة الأخيرة للدولة السودانية :تجاوزت حالة شيوع الفساد إلى مرحلة التصالح معه !
-2-
حينما تم رفع شعار مكافحة الفساد في مهمة اصطياد القطط السمان، كتبنا في هذه المساحة:
حتى تُسهم الحكومة في ترسيخ ثقافة مُكافحة الفساد، وتنفي عنها شُبهة تصفية الحسابات السياسية، عبر سكِّين مُحاربة الفساد، يجب أن يكون هذا التوجُّه عاماً وشاملاً.
لا حملات مُؤقَّتة بزمن، ومُحدَّدة بأشخاصٍ مُنتقين. الفساد تمكَّنَ وقويَ وتحوَّلَ من تجاوزات أفرادٍ إلى عمل جماعي مُنظَّم.
عدم وجود رقابة صارمة لحماية المال العام وانعدام العقاب الرادع، حول الحديث عن الفساد إلى لوثة مجتمعية عرفت بظاهرة التفسيد.
كان ذلك رد فعل لشعور عام، بوجود متجاوزين وفاسدين، لا يجدون العقاب والردع عبر القنوات الرسمية، بالتجاهل وعدم الجدية أو الحماية تحت غطاء فقه السترة.
ما ترتب على هذا الإحساس وتلك القناعات، نشاط اجتماعي محموم، أفرز ثقافة الاشتباه في كل شيء وتصديق كل ما يقال.
في هذا المناخ الاشتباهي، تنتشر الشائعات، وتكثر الاتهامات، وتصدق المعلومات، مهما كان خطلها وسذاجتها.
ويصعب التفريق بين من حاز على وضع اقتصادي مميز، بكسبه الحلال وجهده الخالص، ومن نال ذلك عبر منافذ التجاوزات ومن بواطن الحرام.
قلنا وقتها :إذا لم تقم الحكومات بدورها كاملاً، في القيام بمُهمَّة التمييز بين الخبيث والطيب، والصالح والطالح، والنزيه والفاسد؛ ستقوم بهذه المهمة جهاتٌ أخرى، ستفعل ذلك دون ضوابط ولا أخلاقيات!
الفاسدون أحرص الناس على إفساد مشروع مكافحة الفساد، وإظهاره بثوب الفوضى والعبث الهازل.
الفاسدون أحرص الناس على توسيع دائرة الاشتباه وإحداث حالة ازدحام توفر لهم ملاذ الاختباء أو ستار الهروب تحت حماية الغبار.
-4-
شعور قطاعات ثائرة الآن بوجود حالة تباطؤ في فتح ملفات الفساد، دفع بجهات مجتمعية للقيام بالمهمة، فظهرت على السطح مبادرة (زيرو فساد).
من واجب كيانات ومنظمات المجتمع المدني مساعدة جهات الاختصاص في الكشف عن الفساد وتحديد بواطنه ولكن وفق ضوابط قانونية وأخلاقية.
نعم، من المُهمِّ جدَّاً أن تُدار الحرب على الفساد، بقدرٍ كبيرٍ من العدالة والإنصاف والنزاهة والعقلانية، وألا تُستغلَّ الشعاراتُ في تصفية الحسابات.
الإدانة الاجتماعية والإعلامية، أوقع أذىً من إدانة المحاكم؛ لذا مطلوبٌ منا جميعاً تحرِّي الدِّقَّة ونقل المعلومات الصحيحة.
-5-
الضوابط ضرورية حتى لا يترتب على الممارسة فسادٌ أخلاقيٌّ في التعامل مع قضايا الفساد، فهي ساحةٌ واسعةٌ وسوقٌ عريضٌ للابتزاز والكيد.
في بعض المرَّات تفتح مشاريع محاربة الفساد الباب لأنواعٍ أُخرى منه أكثر خطورة.
في مصر القريبة بعد ثورة يناير، سطع اسم البرلماني ورئيس جمعية مكافحة الفساد، حمدي الفخراني.
بعد فترة قصيرة من تحركاته وعلو صوته تم القبض عليه بتهمة تلقي مليون جنيه رشوة، مقدم لمبلغ 3 ملايين جنيه، من بعض مواطني محافظة المنيا، لشراء شركة أقطان مباعة منذ عشرين عاماً ..!!
الفخراني كان رئيس جمعية مكافحة الفساد في مصر، وحاصلاً على جائزة المحارب الأول ضد الفساد لعام 2010 في المسابقة التي نظمتها حركة “مصريون ضد الفساد”!!
-اخيرا-
دور (زيرو فساد) وغيرها من منظمات محاربة الفساد، مهم وضروري، ولكن يجب أن تمارس ذلك الدور بكل مسؤولية وكفاءة، تراعي أخلاقيات النشر والاعلان وضوابط القانون، وتغلق الباب أمام أمثال حمدي الفخراني!
ضياء الدين بلال