يُرجَّح أن تكون وزيرة الخارجية السودانية الجديدة، أسماء محمد عبد الله، صاحبة دراية واسعة بكيفية إيصال الرسائل الدبلوماسية عبر الإعلام، ذلك أنها تنتمي إلى مدرسة كلاسيكية في تعلم العلاقات الدولية والاشتغال فيها منذ عام 1971 في ملاك الوزارة. السيدة السودانية التي تتولى أهم منصب سياسي بالنسبة لامرأة في هذا البلد، ارتأت إطلاق القنبلة الصوتية الاستكشافية الأولى لنظرتها إلى ملف شديد الحساسية في بلدها وفي المنطقة، أي العلاقة مع إسرائيل، عبر الميديا، ممثلةً بقناة الجزيرة، الأكثر مشاهدة في العالم العربي، وهيئة الإذاعة البريطانية، “بي بي سي”، صاحبة الانتشار المعروف، لتكتفي مع الشبكة الأولى بالقول إن “الوقت غير مناسب للحديث عن التطبيع مع إسرائيل”، قبل أن تشرح في لقائها مع التلفزيون البريطاني أن “ليس هناك شيء ثابت في السياسة، ولكن قد تتغير السياسية وقد يقيم السودان علاقات مع إسرائيل”، قبل أن تستدرك بـ”لكن هذا الوقت ليس هو المناسب”. ومن دون محاكمة نوايا، تتسلّل ملاحظة هنا كيف أن تكرار عبارة “هذا الوقت ليس هو المناسب” مرتين في غضون أيام فصلت بين الحوارين التلفزيونيين، ربما توحي لكثيرين بعجلة معاكسة للمعنى الحرفي للجملة، لو قُرئت في غير سياق.
ليس السودان، بتاريخه وبعذاباته وبالإنجاز الذي حققه شعبه أخيرا، بحاجة في أي حال، لنصائح قومية، ولا لدروس في العدالة وفي إجرام الدولة العبرية. ولا السيدة وزيرة الخارجية تنقصها، ربما، دقة الملاحظة لتميز ما بين الصحيح وغير الصحيح في السياسة التي تذكّرنا بأن ليس فيها ثابت، أي بلا مبادئ، على طريقة كليشيهات مخاتير أهل القرى في تعليقاتهم “السياسية” على أحداث كبرى. لكن ربما سمح غير سوداني لنفسه، أمام استعجال الوزيرة الجديدة فتح ملف العلاقات مع تل أبيب، على غرار رؤساء سودانيين غابرين ربما يكون أبرزهم جعفر النميري وعمر البشير، انتقاد بداية غير موفقة لسيدة تبوأت منصبها ممثلة عن حالة ثورية، صحيح أن القضية الفلسطينية لم تكن في صلبها ربما، لكن الأكيد أن التقارب مع دولة الاحتلال وتطبيع العلاقات معها لم يلحظهما أحد على جدول أعمالها بتاتاً.
أغلب الظن أن الوزيرة الجديدة نبشت في سجلها المهني، خصوصاً خلال توليها منصب الوزير المفوّض ومديرة إدارة الأميركيتين في وزارة الخارجية السودانية، لتقول لنفسها، أولاً، إن الطريق الأقصر لاجتياز مرحلة العقوبات الأميركية، ولشطب السودان عن اللائحة السوداء، يكون بالتقارب مع إسرائيل، أو على الأقل، بالإعراب عن النية بإحداث تقاربٍ كهذا. درس لطالما طبقه عمر البشير بين هستيريا ممانعة منافقة وأخرى، في مرحلة اقترب فيها من احتمال تخفيف العقوبات الأميركية بالفعل، خصوصاً بعد عام 2016، فدفع بعدد من وزرائه للترويج علناً لأهمية إقامة علاقات مع إسرائيل، من وزن سلف أسماء محمد عبد الله في وزارة الخارجية، إبراهيم الغندور، ووزير الاستثمار السوداني الشهير بإعجابه بإسرائيل، مبارك الفاضل المهدي، فضلاً عن المستشار القوي للبشير، مصطفى عثمان إسماعيل.
لقد افتقد عمر البشير الوقت الكافي، لكي يجبي ثمن توسّل المسامحة الأميركية عبر نغمة التلميح بالاستعداد لإقامة علاقات مع تل أبيب، من دون أن يكون مضموناً أن التوسل ذاك كان سيجدي أصلاً، وها هي وزيرة الحقبة السودانية الجديدة توحي بأن أدوات عملها في الدبلوماسية ربما لن تختلف جذرياً عن أسلافها لنواحي الفهم البدائي لأشكال مخاطبة أميركا بالتلميح بإمكانية تطبيع السودان مع إسرائيل، وهو البلد الواقع بين حليفين أفريقيين استثنائيين بالنسبة للعقل الصهيوني: مصر ــ السيسي، وإثيوبيا. ومن دون أن يطلب عاقل من عهد سوداني فتي وليد حراك شعبي بوزن ما شهده السودان منذ عشرة أشهر، أن يحمل راية محاربة إسرائيل مثلاً، حريّ بالقيمين على هذا البلد تصحيح ما جناه عهد عمر البشير عليهم مع جيرانهم الأقربين، عرباً وغير عرب، قبل التحليق في أوهام الحصول على شهادة حسن سلوك أميركية، عن طريق يمرّ بضواحي تل أبيب.
العربي الجديد