لا يا مولانا ..
في حديثه لصحيفة “الميدان” لسان حال الحزب الشيوعي السوداني في عددها الصادر يوم الأحد الماضي ١٥ سبتمبر ٢٠١٩م، وضع المحامي محمد الحافظ العدالة وأسسها وقيمها تحت المقصلة، وتجاوَز في أقصى درجات التحيُّز والغرض السياسي، كل المُتعارَف عليه من صحيح القانون ومُقتضياته، وذلك بطرحه لمفهوم غريب للعدالة الانتقالية التي يبدو أن فهمه لها هو الهيجان العاطفي المٌتهيِّج والشعارات المُتعجِّلة التي لن تبني دولة قانون ولا تؤسس لفضاء قانون معافى من لوثة السياسة، فقد ذهب مولانا إلى دعوة غريبة هي إنشاء محاكم ثورية تفصل في القضايا ضد الخصوم في يوم أو يومين دون إتاحة الفرصة للتقاضي العادل وإتاحة الفرصة كاملةً حتى يتم تحقيق العدالة، واتهم القضاء بالتلكّؤ والمُماطَلة والضعف في الأداء ومُحاولة إطالة جلسات المحاكم، مُستشهِداً بمحاكمة الرئيس السابق وقطع بأنها يمكن أن تُحسَم في جلسة واحدة أو جلستين!..
وفي مُحاولته لتفصيل جلباب منصب النائب العام على مقاس مُحدّد وهو أحد مَن رُشّحوا له، قال إن الذي يتولّى تفعيل العدالة “لا يمكن أن يكون شخصية من خارج سياج الثورة ومشكوك في أدائها وانتمائها المُعادي لتوجّهات الثوار”، وهذا لعمرك اتهام مباشر لمن هم على رأس النيابة العامة والسلطة القضائية الحاليين، ومحاولة غير لائقة للإشارة إلى أن من تم ترشيحه لموقعي النائب العام ورئيس القضاء هم الأجدر لانتمائهما للقوى التي صَنَعت الثورة، وهذا منهج خاطئ تماماً ويُناقض أهم مبادئ العدل والقضاء نفسه، ويتعارض مع كل المُتَّفَق عليه في كل الدنيا، بأن من يتولون القضاء هم الأبعد من أي انتماء سياسي ولا يحملون أي توجُّهات غير الالتزام بالنزاهة والحياد وتوخي أعلى درجات الإنصاف وعدم الاصطفاف مع أي ثورة أو ضدها، فالنائب العام أو القاضي، شرط صحة وجوده هو تَجرُّده الكامل من أية انتماءات أو نشاط ذي صبغة سياسية .
وما يتحدّث عنه من كان مُرشّحاً لتولِّي منصب النائب العام لا يتفق أبداً مع الشعارات التي رُفِعَت عن الحرية والسلام والعدالة، ولا يُعبِّر عن تطلُّعات الشعب السوداني في حُكم القانون واستقلال القضاء وتنقية بيئة العدالة ومناخها من أية مُلوِّثات حزبية وسياسية .
لا يُمكن لدولة محترمة أن تُشيِّد صروحَها العدلية على هذا النوع من التخليط ما بين رغبات الناشط السياسي، والرأي القانوني المُستنِد على حقائق ومُعطيات قاطعة ومُلزمة ومُتَّفَقٍ عليها، فاستقلال القضاء ليس ترفاً من شعارات وديباجات مهنية تتزين بها الدساتير وتاريخ على ألسنة الساسة وعامة الناس، إنما هي قيم مُتجذّرة في التجربة الوطنية السودانية وسمات اتَّسم بها القضاء السوداني وأجهزتنا العدلية على مر الحِقَب وأخذتها منا شعوبٌ ودولٌ حولنا واستفادت منها ..
واتضح ما لا يدع مجالاً لأي شك، أن دعوات مثل هذه، هدفها تحطيم العدالة ونسف استقلال القضاء، والإجهاز بالكامل على مؤسساتنا العدلية باسم الثورة والثوار، فالثورات شأن سياسي، والعدالة شأن قانوني عدلي تصونه مبادئ وقواعد وضوابط وأحكام ليس من بينها جزاف الحديث المُلقَى على عواهِنه، فعندما يعمي الغرض السياسي أصحابه يدفعهم للوقوع في براثن الأخطاء القاتِلة والفادِحة التي تُفقدهم الاحترام المهني وتجعلهم في مواجهة العدالة نفسها التي يسيئون إليها باتهامها بالتلكؤ والمُماطَلة والتطويل، وهم يطعنونها في مقتل عندما ينادون بلوغ العدالة والقضايا في برك السياسة الآسنة ووحلها النتن، فأي دعوة من هذا القبيل هي دعوة مسمومة يجب مواجهتها بقوة من كل قوى الوعي والاستنارة وأهل القانون، وما أبأس بلد يتجنَّى فيه ناشطوه السياسيون على عدالته وقضائه ويعملون على أن يرِد مورد الهلاك …
الصادق الرزيقى
الانتباهة