حافظوا على (التميمة)

(1)
اتفاقية أديس أبابا 1972 التي أَعطَت الجنوب، حكماً إقليمياً – لاحظ إقليمياً – ليس كونفدرالياً أو حتى فدرالي – كانت كلها قائمة على أدبيات مُؤتمر المائدة المُستديرة 1965 وقاد وفد التّفاوُض فيها مِن جَانب الحكومة مولانا أبيل ألير، وقاد وفد الأنانيا جوزيف لاقو – لاحظ الاثنين من الجنوب – تلك الاتفاقية سعد بها الجنوبيون وأحبُّوا النميري حُبّاً لم يجده رئيسٌ من قبل.. تلك الاتفاقية فتحت الجنوب للشمال بصُورة لم تحدث منذ قانون المناطق المقفولة 1923، لدرجة أنّ أبيل ألير رئيس المجلس التنفيذي لجنوب السودان اجتمع برجال المال والأعمال في الخرطوم وقال لهم: تعالوا للجنوب ومعكم كل أموالكم، فما تجدونه من فرص للاستثمار لن تجدوه في الخرطوم، فقط استثنوا التمر لأنّه جماعتنا هناك لو توفر لهم عرقي البلح فسوف يزدادوا طيناً على طينهم..!

 

المُهم كان يُمكن أن يصبح الجنوب جنة من جنان الله في الأرض، ولكن الصراع الجنوبي – جنوبي والتآمر الخارجي على التّواصُل بين شطري البلاد أودى بها، وأخيراً أجهز عليها النميري بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم مُبرِّراً ذلك بأنّ الاتفاقية عبارة عَن وَرقةٍ مِن صنعه هُو وجوزيف لاقو وبالتالي (على كيفهم فيها).

 

(2)
شاهدنا في الرمية أعلاه تجاوُز النميري للاتفاقية المكتوبة وقوله (على كيفهم فيها)، ويبدو أنّ هَذا سَوف يَحدث مع الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية الحالية، فهذه الوثيقة جاءت بعد ولادة مُتعثِّرة استمرت لخمسة أشهر، وتوسّط فيها الاتحاد الأفريقي وعدد من الدول الشقيقة والصديقة والشريكة، وكان يوم توقيعها 17 أغسطس المنصرم يوم عيد وطني واجتماعي، انهمرت فيه الدموع، وارتفعت فيه سُقُوف الطُموحات، وبمُوجبها تكوّن مجلس السيادة، ثُمّ جاء حمدوك كرئيسٍ للحكومة بترحابٍ لَم يَحدث مِن قَبل لزعيمٍ سُوداني, وتكوّن مجلس الوزراء وانفتح العالم علينا، فهلّلت ماما أمريكا لأولاد الحكومة الجديدة، وبدأت القارة العجوزة في إيفاد وزراء خارجية دولها لزيارة السودان، وبدأت الأزمات الاقتصادية في الانفراج، فاختفت مُشكلة السيولة، وبدأ الجنيه السوداني يرفع رأسه, الذين يحملون السلاح تأكّد لهم أنّ القطار قد يفوتهم إذا لم يتحرّكوا تجاهه.. لقد كانت الوثيقة وما ترتّب عليها وداعاً لعهدٍ باد وبداية لعهد واعدٍ..!

 

 

(3)
لكن واهـ من لكن هذه، كما يقول أهلنا في شمال الوادي (الحلو ما يكملش)، والشيطان اللابِـد – المُختفي – في هذه البلاد على قول جدنا الخليفة عبد الله بدأ في الظهور, وعين الحسود تَحَرّكَت.. إلا قل لي بربك بماذا تُفسِّر ما يجري من تظاهراتٍ ومليونياتٍ تُطالب بتجاوُز الوثيقة في تعيين رئيس القضاء؟ وبماذا تُفسِّر التصريحات التي تقول بزيادة عدد أعضاء مجلس السيادة واستحداث وزارات جديدة؟ وتلك التي تُطالب بتأجيل تكوين المجلس التشريعي؟ ولعلّ المُفارقة أنّ المُطالبة بفتح الوثيقة أو تعديلها أو تجاوُزها لم يكن من الذين كانوا يَشكون من الإقصاء في وَضع الوَثيقة، إنّما مِنَ الذين صَاغُوها وَوَقّعوها، أي أصحاب الجلد والرأس، فأصبح لسان حالهم (الورقة دي حقّتنا نحن وعلى كيفنا فيها)!!

 

لقد عرفنا طُغيان الفرد في النميري وغيره، ولكن طُغيان مُؤسّسات تدعي الديمقراطية يَطرشنا ويعمي جيرانا!! إنّ فتح أو تجاوُز أو خَرق هذه الوثيقة سوف يفتح الباب لشُرورٍ سَوف تَنسف كل مُكتسبات الثورة الديسمبرية المجيدة.. والقابضون الجو الآن سوف يقبضون الريح.. وعلى كيفكم..!!

 

حاطب ليل || د.عبداللطيف البوني

 

 

السوداني

 

 

 

Exit mobile version