تعيش السبعينية فاطمة الزهراء تحت ظل أشجار منزلها التي بقيت صامدة أمام مياه السيول التي اجتاحت مدينة الجيلي الواقعة على بعد 45 كيلومتراً شمال الخرطوم، الشهر الماضي، كما تقول مستدركة بنوع من اليقين والتسليم بإرادة الله: “لنا ربٌ يحمينا، أجلس تحت ظل الشجر منذ تهدم بيتي، لم يتم منحي خيمة تؤويني على الرغم من وجودي الدائم إلى جانب أنقاض منزلي”.
وتواصل الزهراء حديثها قائلة بأسى لـ”العربي الجديد”: “أنا منكوبة، لكن هذا لا يعني أن أقوم بملاحقة السيارات التي تحمل الإعانات والخيم حتى يمنحوني مأوى، عشنا ليالي عصيبة نتيجة استمرار هطول الأمطار في الأيام الي تلت تهدم منازلنا على رؤوسنا وأثناء النهار تلذعنا أشعة الشمس الحارقة”.
عائلة الزهراء واحدة من بين 252 أسرة من مدينة الجيلي لم تحصل على خيمة تقيها شمس النهار أو زمهرير الليل، حسب إفادة أمجد جماع، أحد الناشطين في العمل الطوعي في المدنية، والذي قال إن عدد المنازل المنهارة كلياً بلغ 452 منزلاً، لكن من حصلوا على خيام بلغ 200 عائلة بسبب قلة الخيام التي تبرعت بها جهات طوعية لم تغط جميع الأسر، وفق إحصائيات غير رسمية قام بها ناشطون من أبناء المنطقة بعد كارثة السيول التي ترجع إلى انهيار الجسر الترابي المحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية في 19 أغسطس/ آب الماضي، بالرغم من أن المنطقة تفصلها عدة كيلومترات عن مصفاة الخرطوم للبترول، لكن لم يتم تأمينها بواسطة جسر من الأسمنت والحجارة كما يؤكد الأهالي في ظل الخوف من موسم الأمطار الحالي والذي تتوقع السلطات السودانية استمراره حتى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، مع هطول أمطار أعلى من المتوسط.
ولقي 59 سودانياً مصرعهم، بينما تضرر نحو 245 ألفاً و700 شخص جراء السيول والفيضانات الناجمة عن هطول أمطار غزيرة بالسودان، وفق ما جاء في تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا)، والذي قال في 26 أغسطس/ آب الماضي إن الفيضانات دمرت 32 ألفاً و851 منزلاً، وأتلفت (جزئياً) 16 ألفاً و284 منزلاً في 15 ولاية سودانية.
نهب وفوضى
صاحبت عمليات توزيع المواد الإغاثية إلى المدينة المنكوبة من قبل منظمات أهلية وشركات فوضى عارمة، وعلى الرغم من وجود قوة من الشرطة إلّا أن بعض الأهالي هجموا على شاحنة محملة بالخيام وتمكنوا من الحصول على خيمتين وفي أحيان أخرى ثلاث، بينما لم يحصل البعض الآخر على أي شيء، كما يقول عمر أحمد، أحد شباب المنطقة ومن المشرفين على عملية التوزيع، والذي لا يستبعد بيع الخيام بسبب السعر المغري، إذ يبلغ سعر الخيمة ذات القوائم الخشبية 11 ألف جنيه (166 دولاراً)، بينما يبلغ سعر الخيمة ذات القوائم الحديدية 16 ألف جنيه (242 دولاراً)، وهو ما تؤكده الخمسينية أمل محمد والتي تسكن في حي أبوصالح بمدينة الجيلي، مضيفة: “من كان غائباً لحظة مرور العربة، حرم من الحصول على خيمة للإيواء”.
ولم تعتمد عملية التوزيع على حصر المتضررين في قوائم وتصنيفهم حسب درجة الضرر ومن ثم توزيع الخيام وفق الأولوية، كما يقول الناشط جماع مضيفاً: “هناك أسر متعففه تنأى بنفسها عن ملاحقة المساعدات، لذلك تبيت في العراء الآن”، يضيف وفي صوته نبرة ألم: “حاولت بطريقتي الخاصة شراء خيام لهم، لكنني لم أتمكن لعدم توفرها في الأسواق”.
ودفع ارتفاع أسعار الخيام بعض المنظمات الإغاثية إلى منح المتضررين مشمعات (أغطية بلاستيكية) تقيهم الأمطار وأشعة الشمس عوضاً عن الخيام، كما يقول الناشط ناظم سراج والذي يعمل ضمن فريق منظمة صداقات الإنسانية، قائلاً: “الأولوية منح المنكوبين مشمعات في المرحلة الحالية، على أن تجمع الإعانات لمد الأهالي بمواد بناء لتشييد منازلهم بصورة دائمة وقوية”.
جانب آخر من فوضى العمل الإغاثي وثّقته معدّة التحقيق عبر جولة ميدانية شاهدت خلالها عدداً من المواطنين يحملون المواد الإغاثية الخاصة بمنكوبي السيول ويسيرون في اتجاه منازلهم التي لم تتأثر بالحادثة، ومن بينهم من قام بإنزال كميات من الأكياس والكراتين المحملة بالمواد الغذائية أخرجها من سيارته ووضعها داخل منزله، وبالاستفسار عن الأمر من الناشط أمجد جماع لم ينف تسريب بعض مواد الإغاثة إلى غير القنوات التي من المفترض أن تذهب إليها وعزا ذلك إلى سوء إدارة الأمر.
وتشكو بعض الأسر المنكوبة من عدم توصيل الإعانات إلى المتضررين بصورة مباشرة، وفق ما ترويه ربة المنزل سلوى عادل التي قالت: “نحن محتاجون للمساعدة، لكن ذلك لا يعني أن نركض خلف الشاحنات ليمنحونا إياها”، وتضيف: “من يريد مساعدتنا عليه حفظ كرامتنا أولاً”.
يقول الناشط جماع في هذا الخصوص “تحدثت مع مندوبي تلك الشركات والجهات بأن يصلوا إلى المتضررين كل في محل إقامته، لكني فوجئت بردهم أن المتضررين عليهم أن يأتوا إلينا”، ويقصد المكان غير القريب من معظم المتضررين الذي اختاروه للارتكاز فيه. وهنا يقول جماع: “للأسف من يأتون إليهم ليسوا المتضررين”.
تحرك شعبي
نتيجة للغياب الكامل للجهات الرسمية إلّا من تلك الزيارات التفقدية التي قام بها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وسبقه عضو المجلس السيادي محمد حمدان حميدتي، قاد المهندس أحمد إبراهيم، المتخصص في علم الحاسوب، مبادرة خاصة لحصر الأسر المتضررة في مدينة الجيلي وتصنيفها حسب درجة الضرر عبر استمارة بيانات ركزت على خمسة محاور؛ تبدأ بالاسم وعدد أفراد الأسرة وهل المنزل المسكون ملك أم إيجار ونوع الأبنية هل هي من الطوب والإسمنت أم من الطين، ومن ثم حصر حجم الضرر عبر عدد الغرف التي تضررت ليتم بعدها تنصيف الضرر إلى كامل أو جزئي.
واعتمد الحصر على مندوبين جابوا أحياء “أبوصالح، الدشيناب، الشمامير” وتمت تعبئة الاستمارة بصورة مباشرة من المواطنين المنكوبين، ولإعطاء استمارة الحصر والبيانات صفة التأكيد ذيلت بثلاثة توقيعات، وفق ما قاله إبراهيم لـ”العربي الجديد”، مشيراً إلى أن التوقيع الأول لمسؤول المنطقة (شخص من أبناء المنطقة يعمل في اللجان الشعبية وهي جسم إداري أعضاؤه من أبناء الحي مناط بهم تقديم الخدمات)، والتوقيع الثاني لمندوب الحصر والثالث لموظف المحلية (جسم إداري حكومي مسؤول عن تسيير شؤون المنطقة الخدمية من صحة وتعليم وغيرهما من الخدمات)، كما يقول المختص في الحاسوب، مضيفاً: “في حال قررت الجهات الرسمية تقديم أي نوع من المساعدات ستجد الإحصائيات معدة وجاهزة لتباشر مهامها من النقطة التالية لعملية الإحصاء والحصر”.
العربي الجديد