-١- أجدُ أقربَ تفسيرٍ لاختيار بروفيسور إبراهيم غندور لرئاسة المؤتمر الوطني، في هذا الظرف العصيب للحزب؛ أن من اختاروه يدركون أن في الرصيد السياسي لغندور ما يتيح له الدخول إلى الساحة السياسية الجديدة، بفُرَصِ نجاحٍ أكبر من غيره.
غندور سياسي حصيف وذكي، يُجيد التعامل مع الآخر البعيد، بلغة مُتصالحة وأسلوبٍ رصين، وليس في أرشيفه عبارات استفزازية أو مواقف مُتطرِّفة، ولا تُطارده ملفَّات فساد.
ما لا يدركه الكثيرون، أن غندور لم يخرج من السلطة لحديثه عن الأوضاع المالية بوزارة الخارجية في البرلمان، ولكن لاقترابه من الدائرة الكهربائية للمقعد الرئاسي، حينما أصبحت الأصوات تعلو داخل الحزب، مُطالِبةً بترشيحه في انتخابات ٢٠٢٠م.
مع كُلِّ ميزاته التفضيلية على غيره من القيادات، لا أجد بإمكانه فعل الكثير لتجاوز إرث أخطاء ثلاثين عاماً في الحكم، وفرت المادة الخام للثورة على حزبه.
-٢-
استمعتُ لبروف غندور، مُتحدِّثاً لقناة الحرة الأمريكية، وأظنه اكتفى بإرسال رسائل تطمينية على بريد بعض الجهات.
أتمنَّى أن يدرك بروف غندور مُبكِّراً دون الحاجة لأشعة مقطعية، أن أزمة حزبهم ليست في التعامل مع القوى السياسية التي آلت إليها مقاليد الأمر، ولا مع المنظومة الأمنية والعسكرية.
الأزمة الأولى والأكبر، مع قطاعات واسعة في المجتمع، خاصَّة في المدن والطبقة الوسطى وشرائح الشباب المُتضرِّرة من السياسات السابقة وصاحبة القدح المُعلَّى في الثورة.
الحقيقة التي يصعب تجاوزها أو تغافلها، أن الموقف من المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، لم يعد موقفاً سياسياً يحتاج إلى خطابٍ سياسيٍّ تبريريٍّ مدعومٍ باعترافاتٍ مُقتضبةٍ وخجولة؛ بل موقف نفسي بالغ التعقيد، وحالة مجتمعية جروحها عميقة، من المُستحيل إبراؤها عبر حلولٍ سطحيةٍ وإسعافات أوَّلية!!
حالة مجتمعية عارمة، جعلت من كلمة (كوز)، ليست وصفاً لبطاقةِ انتماءٍ فكريٍّ أو حزبي؛ بل إساءة وشتيمة تطعن في النزاهة والاستقامة الوطنية، وقد تقتضي المثول أمام المحاكم!!!
-٣-
والوضع على هذا الحال، سيجد بروف غندور، داخل المؤتمر الوطني، ما بعد السقوط ثلاث فئات :
عضويةٌ مُلتزمةٌ بالفكرة والمشروع، ولكنها مُحبِطةٌ من التجربة، وما آلت إليه الأوضاع، تُعاني انكساراً نفسياً، وعدم رغبة في مواصلة السير، بذات الحماس القديم.
فئةٌ مُستفزَّةٌ من سيطرة اليسار والعلمانيِّين على المشهد، وترى ضرورة المواجهة والتصدي.
فئة ثالثة، من أهل المصلحة والارتزاق بدأت في غسل يديها وتغيير أرديتها وخلع أحذيتها للهروب السريع من الحزب، مُكتفيةً بما كسبت من غنائم، وربما أعادت نفسها للمسرح السياسي عبر باب جديد!!
-٤-
كتبتُ أكثر من مرَّة في هذه المساحة، قبل سقوط النظام:
(مع توالي الأزمات وتراخي المُعالجات وضعف الاستجابة للتحدِّيات المُلحَّة، قد تجد الحكومة نفسها في غفلةٍ وعدم انتباهٍ قد وصل بها قطار الأحداث إلى المحطَّة التي جاءت منها، محطة الشريف زين العابدين الهندي: (لو شالها كلب ما في زول يقول ليه جر)!
بمعرفتي ببروف غندور، لا أظنُّه سيغيب عنه ضرورة إجراء حزبه مراجعات شاملة وتقديم اعترافات جاهرة قبل تقديم أوراق اعتماد جديدة للمواطن السوداني.
-٥-
فليسمح لي بروف غندور، أن أُعيد عليه، ما كتبته قبل أسابيع عن عودة الإسلاميين:
على الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، قبل تغيير الأسماء وعناوين المقار والعودة إلى المسرح؛ عليهما التفكير في جدوى الفكرة والمشروع بمُمارسة نقد ذاتي صادق وقوي وجريء يُعيد فحص المسلمات وتقييمها.
الحقيقة التي يصعب تجاوزها أن مشروع الحركة الإسلامية في السودان، جاء لإكمال تمام الدين في السياسة والاقتصاد والمجتمع؛ ولكن بتداعيات تجربته السالبة هدَّد إسلام الفرد!
نصيحتي للقيادة الجديدة التي تتولَّى ترتيب أمر الحركة والحزب، أن تعتبر الفترة الانتقالية مرحلةً زمنيةً للانكفاء على الذات والنقاهة السياسية، للاستشفاء من أمراض السلطة وإبراء جراح الخروج منها عبر الباب الضيِّق الحرج!
-أخيراً-
نعم، عليكم إقناع الأبناء في المنازل الذين ثاروا على مشروعكم واستعادة ولاء وثقة عضويتكم المخذولة في قادتها، قبل التفكير والعمل لاستقطاب آخرين، وتأكيد الوجود بصوت خفيض وخاطر جريح وتركة ثلاثين عاماً لم تخضع للتصفية.
ضياء الدين بلال