حمدوك و(الدولة العميقة)!!

-1- أدّى الوزراء أمس، القسم أمام رئيسَي المجلس السيادي والقضاء.
لا يغيب عن عينِ أيِّ مراقبٍ أو مُتابِعٍ، حكومة حمدوك، تجد دعماً جماهيرياً ودولياً غير مسبوق في التاريخ القريب.
للمرَّة الثالثة، في مؤتمر إعلان التشكيل الوزاري، نجح الدكتور عبد الله حمدوك في تقديم نفسه كرجلِ دولةٍ يعرف ما يُريد، ويثق في ما يقول، ولا يخشى ما هو مُقدِمٌ عليه.
مع احترامنا لسيرة رئيس الوزراء وحُسن تقديم نفسه في المرَّات الثلاث، إلا أن العامل المهم في هذا التأييد الكبير، أن السودانيين الآن يقفون على ناصية الحلم، مُشبعين بالتفاؤل ليقاتلوا من أجل وطنٍ جديد.
من أجل وطن ذي سمعة عطرة وسلوك قويم، وإنتاج وفير، يسدُّ الحاجة ويُغني عن عطايا الغير، ويكفُّ عنا أذاهم.
وطن صاحب يدٍ عُليا ورأسٍ مرفوع، وعينٍ لا تعرف الانكسار، دولة يُحبِّها المواطن ويُفاخر بخيرها واستقامة نظامها، ويحترمها الآخرون.
هذه العواطف وحدها لا تكفي لإنجاح مهام الفترة الانتقالية، ما لم تتحوَّل إلى خططٍ وبرامج واقعية من ورائها كفاءات وخبرات تعمل بجدٍّ واقتدار.
-2-
المُراقب لقائمة الوزراء المختارين، يجد أغلبهم يحمل سيراً ذاتية تبعث على الطمأنينة.
لكن، هل يكفي ذلك ويُغني عن السؤال؟!
بكل تأكيد: لا…!
ما لم تُختبر السير والخبرات على أرض الواقع، وفي مُحيط العمل، فلا فائدة منها، وهي مُتزيِّنة على الورق.

في بعض المرَّات، تجد أصحاب سير ذاتيةٍ ناصعة، ولكن لديهم عيوب مصاحبة للشخصية تمنعها من تحقيق النجاح .
كذلك، قد تَحُول عوائق وصعاب وتعقيدات أو سنوات الابتعاد والغربة عن المجال وحقل العمل دون المقدرة على الإنجاز.

أكثر ما ظلَّ يُقعد السودان عن النهوض، ويمنع انطلاقه في ركاب الدول الباحثة عن مكان لائقاً بين الأمم، أنَّ كل حكومة جاءت بعد ثورةٍ أو انقلابٍ جعلت من تاريخ وصولها نقطة الصفر لبداية جديدة، مُنبتَّةِ الصلة بما مضى!
بداية تحت عنوان (التاريخ يبدأ من هنا)، دون النظر للتجارب السابقة للاستفادة من الأخطاء لتجنُّب تكرارها والبناء على الإيجابيات، مهما كانت صغيرة.
حتى في حقبة الإنقاذ المُمتدَّة لثلاثين عاماً، كان هذا النهج السالب مستمراً؟
كلما أتى وزير، سعى لنسف ما فعله الوزير السابق ودخل في عداء شرس مع المقربين لسلفه، وعمل بكل اجتهاد لخلق دائرة ولاء شخصي له، في مواجهة ما يراها (الدولة العميقة) للوزير السابق!
هذه المعارك الصغيرة، والتصفيات المُتبادَلة بين الوزراء (الحفر والردم)، أضعفت أجهزة الوزارات، وأفسدت بيئة العمل داخلها، بروائح التآمر والمكائد!
-4-

انقطاع التجارب وعدم تتابعها، وإهمال كُلِّ قادمٍ النظرَ في دفاتر وأوراق سابقيه، جعلنا نُعيد إنتاج تجاربنا الفاشلة، ونُكرِّر أخطاءنا الفادحة.
ما فعلناه أمس، نفعله اليوم، وقد نُكرِّرُه غداً، دون أن نستفيد من أخطائنا ونُعظِّم المكاسب أو على الأقل نُحافظ عليها.

ويكأننا في مسرحية دائرية عبثية، تتكرَّر فيها الفصول بذات الأحداث والوقائع، مع اختلاف أدوار المُمثلين وتغيُّر الأسماء.

-5-
لا أجد ما يمنع الدكتور عبد الله حمدوك، أو وزير المالية مثلاً، أن يجلس الوقت طويل للاستماع لبعض السابقين للوقوف على تجاربهم والاستماع لملاحظاتهم في إدارة شؤون الدولة.
الحديث عن وجود دولة عميقة مُتَّحدة على غايات خبيثة، ومُتَّفقة على قيادة مركزية، يُمكن أن تُعيق الفترة الانتقالية، أظن أن فيه قدراً كبيراً من التهويل.

النظام السابق في فترة حكمه الأخيرة، وربما بعد المفاصلة الشهيرة، تحوَّل لجُزِرِ متصارعة ومتنافسة لا تحتكم لمركزية تنظيمية واحدة.

رئيس الوزراء الأسبق معتز موسى، كان يشتكي من وجود دولة عميقة تُعيق تنفيذ خططه وبرامجه، وحينما جاء خلفه محمد طاهر إيلا بدأ في تصفية الشركات والأجهزة الموازية للوزارات.
حتى في جهاز حسَّاسٍ مثل الأمن والمخابرات، نجد أنه شهد تصفيات متبادلة بين مديريه صلاح قوش ومحمد عطا!

-6-
الحديث عن وجود دولة عميقة، مُستلفٌ، بكسلٍ من التجربة المصرية، دون أن يُغسَلَ من آثارها وظلالها.

أجدني أتَّفق تماماً مع الذين يرون أن الإنقاذ فشلت في خلق دولة عميقة مناصرة لها داخل أجهزة الدولة، فاستعاضت عن ذلك بأجهزة موازية.
مكان ذو حساسية عالية مثل بنك السودان المركزي، ومرافق أُخرى حيوية، دعمت التغيير بكُلِّ قُوَّة.
تفسير ذلك، أن الإنقاذ في حقبتها الأخيرة، كانت تكتفي بكسب ولاء القيادات العليا في المؤسسات، ولا تكترث للكوادر الوسيطة والدنيا.
الخطاب المُتطرِّف عن استئصال كودار الدولة العميقة من أجهزة الدولة، سيخلُق تحالفاً جديداً على أجندة الخوف والغبينة، يناهض الحكومة الانتقالية من داخل الأجهزة وخارجها.

-7-
الأوفق والأفيد لاستقرار الفترة القادمة، ألا تُسارع السلطة الجديدة لسياسة تمكين مُضادٍّ يُعيد إنتاج التجربة السابقة.
كلُّ ما يمكن أن يُعمل في الفترة القادمة، تحكيم معايير فحص الكفاءة مع تفعيل آليات المحاسبة.
حتى يسقط من جاء إلى الموقع برافعة الولاء لا الكفاءة، دون أسفٍ عليه، ويُحاسَب بصرامةٍ من أجرم وأفسد، وكان الانتماء الحزبي له غطاء، تحت بند (فقه السترة)!

-أخيراً-
حاكموهم بأخطائهم وخطاياهم لا ببطاقاتهم الحزبية، وفي ذلك تطبيق لأهم شعارات الثورة (العدالة).

ضياء الدين بلال

Exit mobile version