الأقليات العلمانية في السودان والدولة المدنية عفوا الطريق مغلق

عندما يلتقي احدنا بشباب الثورة الذين انجزوها بالفعل، فانهم يتحدثون عن معنى للدولة المدنية في مقابل الحكم العسكري، وهو معنى جيد يجب العمل له من قبل الجميع بالدفع بمرحلة الانتقال الي صناديق الانتخاب اعمالاً لمبدأ الرضا الشعبي، وعندها ستفرز صناديق الانتخابات حكومة شرعية غير عسكرية تسند اليها ولاية السلطة العامة في السودان، اما عندما تلتقي بالنخب السياسية التي اعتلت ظهر الثورة – وهو موضوع هذا المقال- فانهم يحدثونك عن معنى مختلف كليا لمقصود الدولة المدنية، كونهم ينظرون اليها باعتبارها دعوة لدولة علمانية، مع ملحظ انهم في الغالب لا يجاهرون بمفهومهم هذا للدولة المدنية امام عموم الناس خشية ردة الفعل الساخطة عليهم في مجتمع متمسك بالدين ويعتبره عامل اعتقاد والهام عام، فما ثار الناس من اجل تكريس العلمانية في الحياة السودانية على قرار الثورة الفرنسية او البريطانية … الخ.

والحقيقة المهمة هنا – والتي يجب ان يعيها الجميع لا سيما الشباب الثائر- هي أن معنى الدولة المدنية لدي هؤلاء الأقلية المتعلمنة كأقلية نصبت نفسها ناطقا باسم الثورة يتحول بفضل إطلاقيه فكرة العلمانية والحرية الفردية عندهم، إلى أيديولوجيا شاملة للحياة الاجتماعية والسياسية في الحالة السودانية، أيديولوجيا تشجع المدنية العقلانية والفردانية والحداثة المادية، والجندر ونمط التنمية الاقتصادية الليبرالية وترفض الأخلاقية الدينية كمرجع في الحياة الإنسانية والسياسية بصفة عامة، بحيث يمكن اعتبار الدعوة الى الدولة المدنية لديهم عبارة عن دين أو مذهب وجودي لا ديني يتجه إلى أن سائر الأمور الحياتية للسودانيين، يجب أن تكون مرتكزة على ما هو دنيوي وإجرائي ملموس وليس على ما هو غيبي أو اخلاقي، وأن يتحرر المجتمع السوداني بالكامل من الثقافة والتعاليم الدينية، وتُفسّر الدولة المدنية من هذه الزاوية الفلسفية على أن الحياة السودانية ستستمر بشكل أفضل او من الممكن الاستمتاع بها بإيجابية عندما نستثني الدين والمعتقدات الإلهية منها، وعندها تتحول الدعوة الى الدولة المدنية نفسها إلى دين دنيوي مقدس، لا يجوز المساس به.

والحقيقة ان مفاهيم الدولة المدنية عندما تطرح نفسها، من منطلق عدم الرغبة في تدخل الدين في الشؤون السياسية لمواطنيها فلا تجله مصدرا لتشريعات الوثيقة الدستورية، وعندما تجعل من معنى المجتمع الديمقراطي ( المجتمع العلماني) – كما ورد في الوثيقة الدستورية- هو أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، كم في نصوص الوثيقة حول التنظيمات السياسية والاتفاقات التي تخص المرأة، فإنها تطرح نفسها كفكرة ملتبسة تمارس الخداع والتضليل إزاء الراي العام السوداني، عندما تجعل لتشريعات السلطة التشريعية (المعينة) (تعينا) – والتي لا تستند على مرجعية الشريعة الإسلامية – معنىً مرجعياً “مقدساً” و “مطلقاً” مسبقاً، وتجعل من مبدأ “التشريع” الوضعي هو دين الدولة المدنية العلمانية المنشودة كونه سيشكل ضمانة تفسيرية وقيمية مفترضة للحرية والسلام والعدالة وتلاحم المجتمع، وعندها تكون العلاقة بين المواطن والوطن والدولة المدنية هي علاقة دين سياسي علماني لا ديني، وليست علاقة أساسها تشريعات الدين الإسلامي الذي قد يحد “توهماً” من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة في الدولة السودانية.

وعندها فإن مفهوم الدولة المدنية ومنطقها سيكون هو دين الولاء السياسي العلماني المتمثل في عقيدة المواطنة والإيمان بالدولة العلمانية وأخلاقيات الصيرورة والإجراءات السياسية أو الأمنية التي لا علاقة لها بالأخلاق المتعالية كما نعرفها، ولا تستمد مسوغات أفعالها السياسية من الإرادة الإلهية أو الإرادة الشعبية وإنما من عقيدة السيطرة والهيمنة وفرض الهيبة وحسب، كما عند “مكيافيللي”.

ووجه الإشكال يظهر في أن خطاب الدولة المدنية، يرى في نفسه حركة سياسية واجتماعية تهدف إلى صرف السودانيين وتوجيههم عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها، ومن هنا علمانيتها، باعتبار ان معنى (Secularism) يعرض نفسه من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث يبدأ الناس يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات المادية الدنيوية، وبإمكانية تحقيق مطامعهم في هذه الدنيا القريبة، بآية ان هذا الاتجاه ظل يتطور باستمرار في سيرة تاريخ الأقليات العلمانية السودانية كلها.

ومنه أخذت كلمة “علمانية”، “Secularism”، معناها من هكذا سياقات وأبعاد فلسفية وأيديولوجية لا دينية مادية دنيوية، كونها تعني ضرورة فصل الحياة الإنسانية عن الدين والمعتقدات الدينية في عمومها، وعدم إجبار الفرد على اعتناق أو تبني أو تفضيل معتقد أو دين أو تقليد معين لتبرير قواميه معنى الحرية الفردية كمعطى نهائي في الفلسفة الحداثية، فالعلمانية تعني التأكيد على أن ممارسات الفرد الحرة أو مؤسسات المجتمع السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية … إلخ، ينبغي أن توجد بمعزل عن معاني الدين أو هداية المعتقد الديني.

وبذلك يبدو واضحاً أن المنحى العام لخطاب الدولة المدنية المادي القاصر يفتح الباب واسعاً للاضطرابات الفكرية والسياسية والاجتماعية، لأنه يقوم على منظور هيمنة وصراع لا توحيد وتكامل، ينتهي إلى نسبية أخلاقية حادة في تصويرها للحقائق الدينية، وبالنتيجة فإن هذا الضرب من الجهد لا يرقى ليكون ميثاقا سياسيا عاما وشاملا، يخدم اهداف الانتقال بالحياة السياسية في السودان الى بر الأمان والانتخاب وقبول مبدا التداول السلمي للسلطة.

محمد المجذوب

Exit mobile version