لا يذهب تفكيرك بعيداً في (عروس) التي نقصدها، هي منطقة عروس على ساحل البحر الأحمر، شمال مدينة بورتسودان، والتي ازدهت ذات يوم خلال حكم الرئيس جعفر نميري – رحمه الله – ودفع المستثمرون بملايين الدولارات، من أجل إقامة قرية سياحية عليها، كانت نموذجاً للقرى السياحية في المنطقة العربية، ولم نكن حتى ذلك الوقت نعرف القرى السياحية، فثقافتنا في هذا الجانب لم تتضمن اهتماماً بالسياحة أو التأثيث لكل ما يمكن أن يكون نواة لعمل ترفيهي اجتماعي أو سياحي.
نهضت «عروس» لكن سرعان ما مات الحلم، وسرعان ما تراجعت الأحلام والأمنيات لدى مواطن البحر الأحمر، الذي فوجئ ذات يوم عقب انهيار الحكم المايوي، بتفاصيل فضيحة ترحيل الفلاشا الأثيوبيين عن طريق السودان، حيث كانت قرية «عروس» السياحية آخر محطة تنطلق منها الطائرات إلى محطة وسيطة – أحسب أنها بروكسل – ثم تنطلق منها إلى إسرائيل.
ألممت شخصياً بتفاصيل ترحيل الفلاشا، من ضابط الأمن عبدالله عبدالقيوم، الذي لم يقبل أن يرى هذا الأمر يتم تحت سمعه وبصره، فآثر الخروج من السودان، حاملاً معه المعلومات والملفات إلى إحدى الدول العربية التي استجوبته سلطاتها و احتجزته ثم أعادته (مخفوراً) مأسوراً إلى السودان ليودع في السجن، لكنه لم يبق فيه كثيراً حيث خرج بعد انتفاضة أبريل لألتقيه داخل مكتب اللواء شرطة محي الدين محمد علي عندما كان مديراً لشرطة أمدرمان، وهو يمت إليه بصلة قرابة، ثم عدت والتقيت بذات الضابط مرة أخرى في ليبيا، ولم ألتقه بعد ذلك.
التفاصيل الوافية حصلت عليها من مكتبة الفرجاني في شارع أول سبتمبر بليبيا خلال حكم العقيد الراحل معمر القذافي، عندما وجدت كتاباً معروضاً يحمل اسم (الموساد – الملف الأسود)، مؤلفة أحد ضباط الموساد اسمه فيكتور بولونسكي، ولا أعرف إن كان هذا اسمه الحقيقي أم هو اسم مزيف، لكنني اقتنيت الكتاب أوائل عام 1990م وقرأته كما نقول في عاميتنا:(من الجلدة للجلدة) ورأيت كيف يعظم الأسرائيليون أجهزة مخابراتهم، ويستعرضون قوتها وسطوتها وقدرتها على الاختراق بصورة احترافية يتحسب القائمون بتنفيذ أي عمل لصالح دولتهم لأي خطأ محتمل.
قطعاً في ذلك نوع ممن المبالغة والاستراض والـ(shaw)، وتعرض الكتاب لعمليات عديدة قامت بها الموساد من ضمنها عملية ترحيل الفلاشا من أثيوبيا عن طريق السودان والتي خصص لها فصلاً كاملاً بعنوان (عملية موسى). وكنت أقرأ التفاصيل بغيظ شديد، خاصة عندما يستهين الكاتب بنا وببلادنا، إلى الدرجة التي أشار فيها إلى أن هناك ضابطاً سودانياً، قدم عوناً كبيراً للقائمين بتنفيذ تلك العملية (عملية موسى)، وعندما سأله مندوب الموساد عن أي شيء يريد، وقال له (أنت تطلب ونحن نلبي) توقع مندوب الموساد أن يطالب ذلك الضابط مئات الآلاف من الدولارات، وتحسب هو ومخابراته لذلك الثمن المتوقع، لكنه فوجئ بالضابط العظيم يطلب شيئاً حقيراً، لا يتناسب مع ما قام به في نظر الإسرائيلي، فقد طلب (عجلة رالي) دراجة هوائية، تم توفيرها له، ولم يعرف ضابط الموساد إن أراد الرجل الدراجة لنفسه أو لأحد من أبنائه. تذكرت الكتاب والوقائع والأحداث عصر أمس الأول ونحن في طريقنا من بورتسودان إلى منطقة «إيت» شمالاً لزيارة بعض مناطق التعدين، وقد مررنا على الأطلال التي كانت أول قرية سياحية في السودان، لكن لعنة الفلاشا أصابتها فأضحت أثراً بعد عين.
الذي خفف عنا قليلاً نشوء منتجع جميل وحديث حمل اسم (منتجع البحر الأحمر) يؤمه أهل بورتسودان والسياح وزوار المدينة الرسميين وغير الرسميين، وقد انشأته وتديره سيدة سودانية فاضلة هي السيدة إيمان عثمان حسين وهي كريمة الضابط المعروف اللواء عثمان حسين، والتي عاشت زماناً طويلاً خارج السودان لكنها عادت بهذه الفكرة التي أنعشت ذلك الساحل من جديد، وهي تحقق النجاح يوماً بعد يوم، أو كما قالت لي وزميلي الأستاذ حسن البطري نائب رئيس تحرير صحيفة الصحافة الغراء، عندما تناولنا الغداء هناك ونحن ضمن وفد كبير يزور ولاية البحر الأحمر، ويقوده وزير المعادن الدكتور أحمد محمد محمد صادق الكاروري.
بعد ومسافة – آخر لحظة
[EMAIL]annashir@akhirlahza.sd[/EMAIL]