(1)
المقالات التي كَتبتها في هذا الباب عن ضرورة ولاية وزارة المالية الكاملة على المال العام وخُطُورة التجنيب وجناية البنوك بقيادة بنك السودان (بنوك الجن) على العملة المحلية، تصل إلى العشرات إن لم أقل المئات.. وبالطبع هُنَاك من كَتَبَ بصُورةٍ أكثر وأبلغ مِمّا كتبت حول ذات الموضوع، فالخلل كان واضحاً بالنسبة للجميع، المُتخصِّصين وغير المُتخصِّصين، وقد كُنّا مُدركين أنّ هذا الفساد المالي جاء من فسادٍ إداري مقصودٍ، والطاقم الرسمي والشعبي الذي يُدير الاقتصاد ويقوم بكل هذا العبث معروفٌ، فـ(الهبرو ملو) تعرفهم حتى كلاب القرية، وغفلة القيادة السِّياسيَّة كانت واضحة لنا، ولكن أصدِّقكم القول ما كُنّا نظن أنّ القيادة نفسها وفي شخصها تَمّ تلبيسها ذلك الجُرم، حيث كانت تجنِّب الأموال وتَتَعَامل في سُـوق العُملة الأسود بنفسها بتلك الصورة المكشوفة للمُقرّبين والبعيدة عن أعين المُراقبين، وهَذَا مَا كَشفته مُحاكمة الرئيس السَّابق التي تُجرى هذه الأيّام.
لَقَد كُنّا نَظن أنّ السوشيال ميديا كشفت لنا كل شئٍ، ولكن يبدو أنّ هناك تفاصيل مُدهشة في طريقها إلينا هذا للحي البعيش وإذا تركت النخبة السِّياسيَّة القائمة الآن الصراع على السُّلطة واتّجهت إلى قيام مُؤسّسات الحكم المُناط بها كشف المُستخبئ وإخراج البلاد من هذا الماضي الأليم.
(2)
مُحاكمة الرئيس السابق التي بدأت بمُبادرة من المجلس العسكري الانتقالي السَّابق، كان القصد منها إثبات أنّ العساكر الذين خلّفوا ذلك الرئيس، مُختلفون عنه، وجَادون في كنس آثاره، أي أنّ المُحاكمة ليست غاية في حَدِّ ذاتها، إنّما هي وسيلة لإكساب مشروعية، بدليل أنه قد تم اختيار قضية أقرب للمدنية منها للجنائية، ولكن يبدو أنّ السحر قد انقلب على الساحر، فها هي القضية التي ظَنّ البعض أنّها ماليةٌ بحتةٌ تضرب في العصب الحي وبقوةٍ، والمُؤكّد أنّها ستكون قاطرة لبلاوٍ ما أنزل الله بها من سلطانٍ، هذا للحي البعيش وإذا اتّجه القائمون على الأمر الان للدخول في دولة المُؤسّسات وتركوا المُماحكات التي تُجرى بينهم الآن..!
(3)
هناك أمرٌ لا بُدّ من أخذه بحذر، إذ يَبدو أنّ المُتّهم (الرئيس السّابق) مُتّجهٌ بالقضية نحو طريقة عليّ وعلى أعدائي، وَقَد يَسعى لتصفية حِسَابَاتِهِ مع جهاتٍ خارجيةٍ و داخلية، وملامح هذا التّوجُّه (بدأت من قُولة تِيت)، وهذا قد يضر بعلاقة السودان الخارجية، وقد يضر بأمن السودان القومي، وقد يُكَلِّف الوضع الجديد فواتيرَ لم يَستلم بضاعتها، فلا بُدّ من إدارة هذا الأمر بحكنةٍ ومهارةٍ دُون أيِّ تَنَازُل عن الحق العام، وعدم إفلات أيِّ مُجرمٍ من العقاب، واسترداد أيِّ جنيه اغتنى به أيِّ حرامي وأفقر به هذا الشعب الفقير!! كذلك لا بُدّ من كشف كل السُّبل و(الدِّريبات) التي أدّت إلى تلك الفوضى وإغلاقها إلى الأبد.. بعبارةٍ أخرى يجب أن تمضي المُحاكمة بكل قوةٍ وثباتٍ إلى أن تصل لغايتها فما في لعب في حُقُوق الشّعب، ولكن في ذات الوقت يجب ألا توقع هذه المُحاكمة البلاد في أفخاخ – جمع فخ – سواء كان ذلك بقصدٍ أو بغير قصدٍ.. بعبارة ثالثة لا بُدّ من تدخُّل الإرادة السِّياسيَّة هنا وعن طريق القَانُون ولا شَيء غير القَانُون.. والشرح الكثير يُفسد المعنى كما يقول العلامة عبد الله الطيب.
حاطب ليل || د.عبداللطيف البوني
السوداني