هُنا في أرجاء مصر، شوارع عديدة تحمل اسم السودان، ومناطق غلب عليها الطابع السوداني، هنا تمركز آلاف السودانيين، إما عن طريق اللجوء أو الهجرة. حاولوا الاندماج مع المصريين، ولكن يظل الوطن هو الوطن ويظل اللجوء قراراً صعباً.
ورغم تنوع أسباب لجوئهم ما بين البحث عن حياة أفضل لهم ولأولادهم، والبحث عن مصدر رزق يُنفقون منه، والبحث عن مكان آمن يعيشون فيه، إلا أن آلاف من اللاجئين السودانيين يُعانون مشكلات عديدة خلال إقامتهم المؤقتة.
منذ ما يقرب من عام هاجرت أماني عيسى رفقة أولادها الثلاثة من السودان هرباً من “الظروف الصعبة والوضع غير المحتمل” لذا كان التوجه إلى مصر حلاً جيداً، كانت تحلم أماني بزيارة القاهرة كسائحة ولكن شاء القدر أن تُحرك قدماها نحو مصر لاجئة إليها.
تسكن أماني هي والعديد من اللاجئين السودانيين بمنطقة مساكن عثمان بمدينة السادس من أكتوبر، المساكن المُقامة بجوار مقابِر أكتوبر، “ماكونتش متوقعة أني أجي مصر أعيش في منطقة زي دي.. بس سِكنا هنا علشان الإيجار قليل، بندفع 300 جنيه في الشهر”.
تعمل أماني بأحد “الأكشاك” المجاورة لمقابر أكتوبر، “الشغل هنا بيبقى كويس بعد الظهر لما بيبقى في جنازة أو دفنة والناس بتيجي تشتري”، ترى السيدة السودانية أن أكثر ما يعاني منه اللاجئون هو سوء الأوضاع المعيشية، وخصوصاً إذا تقابل ذلك مع إهمال من جانب المفوضية السامية أو منظمات المجتمع المدني “مفيش أي منظمة إدتني أي حاجة من يوم ما جيت”.
يعيش أغلب اللاجئون بمنطقة مساكن عثمان بمقابر أكتوبر على الصدقات وما يعطيه لهم المارة ممن حضروا لإيصال ذويهم إلى المثوى الأخير أو للزيارة.
على بعد أمتار قليلة من الكشك الذي تعمل به أماني، تجلس أمل محمد رفقة أولادها، تعيش الأم هي وأبنائها في وضعً معيشي صعب تصفهُ “البهدلة الشديدة” وكثيراً ما يخُطر على بالها أنها اتخذت القرار الخاطىء باللجوء “أتبهدلت في الغربة أكثر من بلدي السودان”، سافرت أمل من السودان أملاً في البحث عن حياة أفضل لها ولأولادها “قالوا مصر أحسن من السودان، قالوا هتلاقي حياة أفضل لاولادك” وانطلاقا مما سمعته؛ اتخذت قراراً مصيرياً وسافرت براً حتى دخلت مصر وفي حوذتها ثلاثون جنيهاً فقط، لتبدأ مرحلة جديدة في حياتها تعتبرها الاصعب على الأطلاق.
تتنوع الأسباب والنتيجة واحدة، ففي الوقت الذي تبحث فيه “أمل” عن طعام أولادها، تبحث “صباح” عن علاج لابنها الوحيد. قبل عام تحركت صباح رفقة ابنها من “أم درمان” إلى “دنقلة” ثم إلى “أسوان” ومن “أسوان” حتى “وسط البلد”، استغرقت تلك الرحلة يومين كاملين. كانت السيدة السودانية تأمل أن يكون الوضع أفضل في مصر وأن يكون الحصول علي علاج ابنها أسهل مما كان في السودان، ولكن وجدت نفسها تجلس بأبنها “عبد الرحمن” أمام مقابر أكتوبر وتنتظر الصدقة للحصول على علاجه.
ليست سوء الأوضاع المعيشية وحدها هي ما يواجهه اللاجئون السودانيون في مساكن عثمان، وإنما أكثر ما يعانون منه هو التمييز والعنصرية والاضطهاد الذي يُمارس ضدهم.
ووفقاً للمفوضية السامية لشئون اللاجئين تستضيف مصر حاليًا أكثر من ٢٥٠ ألف لاجئ من ٥٦ بلدًا مختلفًا.
ويشكل (السوريون والسودانيون) وحدهم ثلاثة أرباع هذا المجموع، وخلال العامين الماضيين ٢٠١٧ – ٢٠١٨ ازداد عدد اللاجئين وطالبي اللجوء في مصر بنسبة ٢٤%.
لم تسلم أماني من العديد من التعليقات العنصرية “يا سودا”.. “يا سماره”.. “جيتوا كرهتونا في البلد”.. “زهقنا منكم”.. “شاركتونا في لقمه عيشنا”، ولكن أكثر ما يزعجها هو اضطرار أبنائها أن يسمعوا تلك التعليقات وتعرضهم للعديد من المضايقات والتنمر.
يتشابه ما تتعرض له “أماني” مع ما تتعرض له “أمل” فأكثر ما تسمعه من المصريين “انتو سوادنين..تاخدوا اكلنا وشربنا ليه؟” فبعض المصريين ممن يقوموا بتوزيع الطعام أو الصدقات في المقابر يمتنعون عن ذلك إذا كان السائل سوادنياً.
اللجوء بات رفيقاً لصباح، وكذلك ابنها، ولعل أكثر ما يخيفها هو تعرض ابنها للضرب والتنمر وخاصة انه من ذوي الاحتياجات الخاصة.
القدوم للقاهرة لم يكن اختيار الثلاث سيدات، وإن عادوا بالزمن ربما لكان اختلف الاختيار، تتذكر صباح وطنها وكيف كان كل شيء زاهيًا قبل تردي الأوضاع، أما الوطن بالنسبة لأمل الآن فهو أطفالها ورعايتهم ومحاولة توفير المأكل والمشرب لهم أما العودة للسودان فغير مطروحة.
”مرات بنغني ومرات بنعيط” هذا هو سبيل أماني للترفيه عن نفسها، “لازم الواحد يرفه عن نفسه عشان يقدر يعيش”، أما عن حلمها فكل ما تتمناه حاليا أن تسافر إلى ألمانيا أو إلى أي دولة ” تحترم الإنسان”.
مصراوي