موسى يعقوب .. أيها الراحِل النضير

أنشبت المنيّةُ أظفارَها، وغاب عن الدنيا الفانية أخانا الأكبر وأستاذنا الكبير موسى يعقوب، الصحفي والكاتب الكبير، ليترك وراءه حياةً حافلةً بالعطاء والإنجاز والمُساهمة الفاعِلة في الحياة العامّة لأكثر من خمسين سنة وتزيد، ورحَل بنفسه الراضية المُطمئنّة، ووقاره وسمته وأدبه، ولم يأخذ معه إلى دار الخلود إلا احترام الناس له ومحبّتهم وتقديرهم له، فهو كان مسرى للخُلُق الرفيع ومنارة سامقة تكشف سمو النفس وبساطتها، ولم يصحب معه إلا جلائل أعماله وفضائل أخلاقه ووجهه البشر والنبل الناضح على محياه، وهو يُودّع دنيانا الخادعة، لم يودِع في أرصدتها إلا تجربة عميقة وخبرة طويلة في عالم الصحافة والإعلام ومبادئ عاش عليها، بها عاشَر الناس وعرفوه وألفوه وأحبوه، وبها نافح عن أفكاره ومعتقده ودينه وعقيدته، لم يتزحزح قيد أنملة عن خط الدفاع الأول، لم تلِن له قناة، ولم يضعَف له عزم، حتى في تلك اللحظات التي كان يُصارِع فيها المرض ويُقارِع العمر العتيد..

عرفتُ الأستاذ موسى يعقوب عن قُرب في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، كقارئ مُدرِك، ولمّا دخلتُ تلك الأيام أروقة العمل الصحفي وجدته كاتباً كبيراً في الصحف السيّارة في عهد الديمقراطية الثالثة، كان يستند على تجربة صحفية بدأها منذ الستينيات من القرن الماضي، حيث كان من شباب الإسلاميين الإعلاميين في جريدة “الميثاق”، وفي الأنشطة الإعلامية في تلك الفترة، وكان من أميَز شباب طلائع البعث الحضاري والشباب آنذاك، وصقلته تلك التجربة وفتحت له آفاقاً واسعة جال خلالها في بلاد عديدة، وتلقى فيها تدريباً في مجال العمل الصحفي، ووسّع من مدارِكه، وانفتح على عالم الصحافة من أبوابه المتعددة الواسعة.

وأذكر في فترة الثمانينيات كان يُمثِّل مدرسةً قائمةً بذاتِها في كتابة التحليل السياسي، حيث ظلّ يكتب بانتظام صفحةً كاملةً كل يوم سبت بصحيفة “الراية” يتناول فيها الشأن السياسي وأهم أحداثه في أسبوع، وتميَّزت تلك المقالات بدقة المعلومات وغزارتها وفرّها له قُربه من الطبقة السياسية واتصاله بصُنّاع الأحداث والقرارات من كل الطيف السياسي.

لم يكن موسى يعقوب طعّاناً ولا لعّاناً، كان كاتباً عفيف القلم واللسان، سليم الجِنان، لا يعرف الحقدُ إلى قلبه سبيلاً، تجد صداقاته ممتدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، له علاقات مع من ينتقدهم وهم راضون بنقده، لأنه لا يتجاوز حدود الموضوعية والمنطق السليم، لذا كانت له صلات مُمتدّة مع قيادة حزب الأمّة والأنصار والاتحاديين والختمية وكل شِيَع اليسار ومِلَلِه ونِحَلِه، فضلاً عن كونه يمثل وجهاً مُشرقاً في صفوف الإسلاميين من وجوه المعرفة والصحافة والإعلام.

عندما ترأس تحرير صحيفة “الإنقاذ الوطني” مطلع التسعينات، كُنّا وقتها بصحيفة “السودان الحديث” ، ولم تكُ هناك صحف غيرهما، ولم تكونا متنافِستيْن، كان الأستاذ موسى في قمة تألُّقه الصحفي، صحفياً مُلتزِماً ومِهنيّاً حاذِقاً وكاتباً سهل العبارة يسبك الكلام سبكاً، ويُشيّد بناءه بمهارة فائقة جعلت من قلمه وكتاباته مشاعل مضيئة ألهمت الكثير من كُتّاب المقال والتحليلات السياسية، لم يكن يبخل بمعلومة أو يكتم معرفة أو يتوارى خلف مبررات أخرى تمنع من وصول ما يريد إيصاله للرأي العام، وكانت له ذاكرة تختزن الكثير من الوقائع والمشاهِد والحوادث، بما يجعل من كلِّ كلمةٍ يكتبُها غير قابلة للنفي أو التأويل أو النقض.

خلال السنوات الأخيرة، وهو يكتب في صحيفة “أخبار اليوم”، لم يتخلّ موسى يعقوب عن تواضُعِه أبداً يتأبط كتبه وعدداً من الصحف راجلاً في الطريق لا يُصعِّر خدّه ولا يتعالى على الآخرين، ولا يزاحِم حين يكون الزحامُ مطلباً، تزَامَلنا في مجلس الصحافة، وكان دُرّة الاجتماعات.. لا يقول إلا رأياً فيه قدر وافِر من التمحِيص والتأنّي في إطلاق الأحكام، يُحاوِلُ دائماً أن يُوفِّق ما بين الآراء المتعارِضة والأفكار المُتقاطِعة، حافَظَ على هذا البهاء العجيب من التهذيب والاحترام وعفة اللسان، حتى غادَر الدنيا أمس، سليم القلب والروح، وراحِلٌ مِثلُهُ إلى ملكوت الله سيجد الجزاء الأوفى وسيلقَى مقعد صدقٍ عند عزيز مقتدر، نسأل له الله المغفرة والرحمة….

لا حول ولا قوة إلا بالله… إنا لله وإنا إليه راجعون..

الصادق الرزيقي
الصيحة

Exit mobile version