من “الحماية الروحية” إلى “الكجور” النوبي.. تعرف على ثقافة قبائل أرض الذهب والحضارات

اعتمدت الأمم المتحدة، في عام 1994، التاسع من شهر آب/أغسطس من كل عام يوما عالميا للشعوب الأصيلة، وذلك بغرض الاهتمام بالشعوب الأصيلة في مناطقها.

 

الخرطوم – سبوتنيك. تحتفظ هذه الشعوب التي تعتبر اليوم أقليات، بخصائص تراثهم وثقافتهم المحلية الضاربة في القدم، ورغم أنهم يمثلون اليوم 5 بالمئة من جملة سكان العالم، إلا أنهم يشكلون نسبة 15 بالمئة من أفقر سكانه.

 

وفي السودان، تجد قبائل “النوبة” يقطنون منطقة جبال تحمل ذات الاسم، وهم يعتبرون من الشعوب الأصيلة التي تحتفل بهم الأمم المتحدة، حيث أقيمت احتفالات بهذه المناسبة العالمية بمنطقة “أم بدة”، غربي مدينة “أم درمان” السودانية.

 

اسم النوبة مشتق من كلمة “نوب” وتعني الذهب، وسميت المنطقة بذلك لوجود بها أكبر مناجم الذهب في أرضها بمنطقة العلاقي، بلاد النوبة تاريخيا امتدت من جنوب مصر إلى جنوب نهر النيل، وانقسمت إلى ثلاث ممالك: كوش ومروي ونباتا. وضمت دول حوض النيل: أثيوبيا وتنزانيا والسودان والكونغو.

“بأصالتي أرسم هويتي”

 

جمعت الاحتفالات كافة مكونات النوبة بأزيائهم المتنوعة ما بين اللبسات الأفريقية والعمامة والجلباب السوداني المميز، وجاء الاحتفال تحت عنوان (بأصالتي سأرسم شكل هويتي وأسترد حقوقي وأصون كرامتي). كما تم في الاحتفال اختيار ملكة جمال النوبة.

 

وأفاد الأستاذ بجامعة بحري والباحث في تراث النوبة، البروفيسور جمعة كندة، لوكالة “سبوتنيك”، بأن “هذا الاحتفال هو الرابع من نوعه الذي يقام في السودان، وهذا العام مخصص للغات الشعوب الأصيلة من أجل الاهتمام بها ورعايتها وتوثيقها.

 

وأضاف:”يأتي الاحتفال في شكل برامج ثقافية وفعاليات اجتماعية طوال العام، وتختتم بهذا الاحتفال الكبير، وفي هذا اليوم، تلقى خطابات رسمية في الأمم المتحدة واليونسكو تحث الدول على الاهتمام بالثقافات المحلية للشعوب الأصيلة، وسن القوانين الكفيلة بحفظ حقوق وحريات هذه الشعوب”.

 

وأوضح كندة أن “الاحتفال عمل على التعريف بالثقافة الشعبية لقبائل النوبة وفنونهم وتراثهم باعتبارها جزءا أصيلا من المجتمع السوداني، الشيء الذي يؤدي إلى التعارف القبلي والتلاقي الثقافي والتبادل الفكري مع بقية مكونات الشعب السوداني، وهذا بدوره يعمل على تعزيز قيم الوحدة الوطنية من خلال التعدد الثقافي”، مشيرا “هذا الجانب لم يجد الاهتمام اللازم من الدولة في كل الحكومات منذ الاستقلال، لذلك برز الاهتمام الشعبي بهذا الأمر المهم”.

 

النوبة ومجموعاتها العشرة

 

وفي ذات السياق، أعتبر الأستاذ الجامعي أن “قبائل النوبة من أقدم القبائل في السودان، وهم امتداد للنوبة الموجودين في شمال السودان”، وتقطن في كردفان، في المنطقة التي تعرف بجبال النوبة التسعة والتسعين”، مشيرا إلى أن “علماء الأنثروبولوجي يقسمون النوبة إلى مجموعات عشرة”.

 

ويضيف: “هذه المجموعات هي النمم، وتوجد في منطقة الجبال الستة، وتقلي، وهم الذين أسسوا واحدة من أكبر الممالك الإسلامية في السودان، ومجموعة الأما التي تقطن شرق جبل “الداير”، وتولوسي التي تقطن جنوب الجبال، وتيفين، وكواليب في أقصى جنوب شرق دبال النوبة، وتلودي، ودفوفة، والتاجو، والليري، وكل هذه المجموعات متداخلة مع بعضها البعض”.

 

ويأمل كندة أن تجد ثقافة النوبة وتراثها الاهتمام اللازم بعد الثورة السودانية، الشيء الذي يدعم التنوع الثقافي في السودان.

 

نظام الحماية الروحي من اللصوص

 

يوضح رئيس اللجنة العليا للمهرجان للنوبة، الدكتور شمسون خميس كافي، أن “النظام الاجتماعي [لقبائل النوبة بكردفان] دقيق ومضبوط من أجل الحفاظ على الأمن والنظام والحقوق والموروثات والقيم الثقافية”، موضحا أن “السرقة تعد من أنكر الجرائم في مجتمعهم، وإذا اكتشف السارق فإن المجتمع يلفظه ويضطر إلى مغادرة القبيلة”.

 

ويضيف كافي “هذا الاستنكار نجده أيضا بارزا في معتقداتهم الروحية، حيث إن بعض الأسر لديه نظام حماية روحي من اللصوص، فإذا سرق أحد منهم شيئا فإنه يصاب بمرض معين ولا يشفى منه إلا باعترافه بالجريمة وإعادة المسروق، ومن ثم تعمل له طقوس روحية معينة لإزالة هذا المرض منه، وأن هذا المرض إذا لم يشف السارق منه قد يمتد إلى أسرته، وهذا يعتبر نوع من الروادع الاجتماعية في القبيلة”.

 

وكشف كافي أن “لدى النوبة عادة يتشددون فيها للغاية، فهم لا يتزوجون من بنات خالاتهم، ويحبذون زواج بنات العمومة، فتتم خطبة الفتاة منذ صغرها، ويتم إلباسها عقدا من السكسك، فيعرف المجتمع أنها مخطوبة”، مضيفا “المهر عند النوبة في العادة هو عمل ينجزه العريس لأسرة الفتاة كبناء غرفة أو زراعة أو حصاد، وبعض القبائل تطلب المهر ماشية أو سلاحا، كما أن بعض القبائل تحدد مبلغا من المال لا يكون كبيرا عادة ولا يمكن تجاوزه في أعراف القبيلة، والزواج عادة يكون عقب موسم الحصاد”.

 

ويبرز كافي بعض العادات والتقاليد لدى النوبة، فيقول:

 

“النوبة مولعون بالغناء والرقص، ولكن الغناء عندهم ليس للبهجة فقط، بل يعد عاملا مهما من عوامل حفظ قيم المجتمع وثوابته وأخلاقه وتقاليده ومعتقداته، لأن “الحكّامات”، وهن مغنيات القبيلة، يعكسن من خلال غنائهن ما هو موجود في المجتمع سواء من إيجابيات أو سلبيات، كما يستخدمنه في ذم الذين ينتهكون قواعد المجتمع وضوابطه والتشهير بهم، كما يستخدمنه في مدح ذوي المحاسن والأفعال الطيبة والمستمسكين بالقيم والأخلاق، وهذا الغناء ليس فيه رقص وإنما للاستماع فقط”.

 

ويضيف كافي، أن “هؤلاء الحكامات يعدن من ضمن النظام الرقابي في المجتمع، وهناك أهازيج تقال عند الزراعة والحصاد والرعي، ومن أشهر الرقصات عند النوبة رقصة الكمبلا، وتقام عند المناسبات الكبيرة، وتصاحبها منافسات لتحمل الجلد بالسياط على الظهر من قبل شبان القبيلة، مثلما يحدث عند قبائل الجعليين في شمال السودان، والذي يعرف بـ البطان”.

 

المصارعة.. تجمع بين قبائل النوبة

 

يقول كافي إن “رقصة الكمبلا معروفة عالميا ومسجلة في التراث العالمي، كما أن هناك رقصة الكرن، ورقصة البخسة، ورقصة الحرب، وهذه الرقصات تستخدم فيها الآلات الإيقاعية مثل النقّارة، والموسيقية كالأبواق والربابة والقرن والصفارة”.

 

وبحسب كافي، فإن النوبة أيضا “مشهورون برياضة المصارعة، ويتنافس فيها الشبان والفرسان. وبرغم أن المصارعة تحتاج إلى أجسام قوية، إلا أنها تعتمد على التكتيك والخبرة والخفة والذكاء، وهذه الرياضة تجمع بين قبائل النوبة، وتعتبر بمثابة داعم للترابط الاجتماعي بين القبائل، وأصبحت تمارسها قبائل أخرى غير النوبة، وحققت انتشارا واسعا بحيث أصبحت رياضة سودانية قومية، وتم إنشاء ملعب لها بمنطقة شرق النيل بالخرطوم”.

 

واستطرد كافي، بأن “النوبة كانوا إلى وقت قريب يدفنون موتاهم على نظام فراعنة شمال السودان، حيث يدفنونهم في غرفة تحفر في الأرض، هذه الغرفة يكون مدخلها أسطوانيا ضيقا، وتكون واسعة من الأسفل، لذلك فإن الجثة تدخل إلى القبر بشكل رأسي، ومن ثم يضعونها في القبر في شكل أفقي، إلا أن هذا النظام تغير، حيث صاروا الآن يدفنون موتاهم على طريقة المسلمين”.

 

وهذا ما يحدث عندما يموت السلطان؟

 

وأبأن كافي أيضا أن “السلطان عند النوبة له مكانة كبيرة في المجتمع، لأنه مجتمع قبلي يقوم على وجود الزعامة القبلية. ولتنصيب السلطان مراسم تختلف ما بين قبيلة وأخرى اختلافا طفيفا، ولكن في العادة عند الكثير من القبائل، فإن السلطان يختار من أسرة معينة في القبيلة هي أسرة السلاطين، كما يختار نائبه من أسرة أخرى، ولكن لا تختارهما أسرتيهما، وإنما يوكل هذا الاختيار إلى أسرة أخرى مكلفة بهذا الأمر وفق معايير محددة يجب أن تتوفر في الشخص، حيث يكون من أفضل الناس وأحسنهم أخلاقا وشجاعة واستقامة وقوة شكيمة وحكمة”.

 

ويشرح كافي أن “الأسرة التي تختار السلطان يحرم عليها إنشاء أي علاقات مع أفراد أسرة السلاطين أو تواصل اجتماعي، لضمان النزاهة والحيادية في الاختيار”.

يقول كافي “يختارون للسلطان زوجة من أفضل نساء القبيلة. وفي عرف القبيلة، إذا مات السلطان، فإن نائبه يعزل ويختار نائب جديد مع السلطان الجديد، حتى لا يكون نائب السلطان القديم أقوى من السلطان الجديد”.

 

ويضيف:

“للسلطان مجلس من المستشارين كل باختصاصه، وهؤلاء المستشارون يتم اختيارهم أيضا من أسر محددة في القبيلة، هي أسر المستشارين أو مساعدي السلطان. كما أن لكل قبيلة أشخاص معروفون بالحكمة والخبرة والمعرفة بأمور الفلك والنجوم”.

 

يلفت كافي إلى أن مستشاري السلطان “هم من يحددون للناس متى يزرعون، ومتى يحصدون، ومتى يأكلون من محصولهم، ومتى يخرجون إلى الصيد، وهذا يعد من ضمن التنظيم والتخطيط الاقتصادي في القبيلة، كما أن هناك أسر معينة مسؤولة عن حماية ومراقبة حدود القبيلة وأراضيها الزراعية”.

 

ماذا تعرف عن “الكجور” في النوبة؟

 

وبحسب كافي، فإن “النوبة معروفون باستخدام طبول النحاس الكبيرة في المناسبات الكبرى، وتسمى السبر، وتكون أكثرها في موسم الحصاد الكبير والصغير، حيث تقام احتفالات جماهيرية أمام بيت السلطان تمارس فيها الطقوس والألعاب والرقصات والأغاني المحلية، كما أن النوبة اشتهروا بالاهتمام الشديد بالأمور الروحية، وهي متجذرة في ثقافتهم، لذلك هم مشهورون بما يعرف بـ “الكجور” أو”تمسي” بلغة النوبة.

 

والكجور هي روح خارقة تتقمص شخصا معينا تختاره هذه الروح دون إرادته، وله مواصفات محددة بأن يكون شخصا صالحا في نفسه مستقيما في سلوكه، ومن خلال هذه الروح يكتسب الشخص مقدرات خارقة كعلاج المرضى وجلب الخير ودفع الشر وإنزال المطر والتعامل مع الغيبيات.

 

ويضيف كافي “الكجور حسب معتقد النوبة يكون قريبا من الله، وما يقوم به هو الطلب من الله بفعل الشيء فيحققه الله عن طريقه، والكجور إذا مات فإن الروح تنتقل إلى شخص آخر ليس شرطا أن يكون من أسرته، والكجور يحمي الناس من السحرة لذلك فهم في عداء دوما معهم، ومجتمع النوبة ينبذ السحرة، وإذا تم اكتشاف ساحر يمارس السحر في القبيلة، فإنه يعاقب بواسطة الكجور، وربما يطرد من القبيلة”.

 

وحول الموضوع، يقول نائب رئيس اللجنة العليا للمهرجان، المك محمد على جيلي، لوكالة “سبوتنيك”، “من ضمن الأشياء التي يبرزها الاحتفال هو دور النوبة في العمل العام ومشاركة أبنائهم منذ قديم الزمان في كافة مناحي الحياة، فعلى مستوى الممالك، فقد أقامت النوبة مملكة عريقة في السودان هي مملكة “تقلي”، والتي تعد من أكبر الممالك الإسلامية في المنطقة، وأسست هذه المملكة في منتصف القرن السادس عشر على يد الملك جيلي أبو جريدة. وكلمة المك في السودان تعني الملك، واستمرت هذه المملكة حتى تاريخ السودان الحديث، وكانت من أكبر الداعمين للثورة المهدية في عهد المك آدم أم دبالو”.

 

 

ويضيف أن من “أبرز أمراء النوبة العظام في الدولة المهدية الأمير عمر المر ابن المك آدم أم دبالوا، وحمدان أبو عنجة، والزاكي طمل، والنور عنقرة، وحينما شاركت قوة دفاع السودان إبان الحكم الإنجليزي بأورطة في المكسيك، كان قوامها من أبناء النوبة”.

 

وتابع، “كان للنوبة مشاركة بارزة في الثورات على الحكم الإنجليزي، أبرزها ثورة الفكي على الميراوي بجبال النوبة. وكلمة (الفكي) في السودان تعني الفقيه، كذلك ثورة المك كوكو كبنقا، وقد استخدم الإنجليز ضده الطيران الحربي لأول مرة، وكان رجلا كبير السن، فقبض عليه الإنجليز وأودعوه سجن كوبر بالخرطوم بحري هو وأبناؤه وجنوده، ثم أفرج عنهم، إلا أن الإنجليز منعوهم من الرجوع إلى جبال النوبة ومنحوهم مساحة شرق سجن كوبر ليقيموا فيها مساكن لهم، وهي ما تعرف الآن بـ (حلة كوكو)”.

 

 

 

 

 

اسبوتنيك

Exit mobile version