الصحفي “عزمي عبدالرازق” يسرد تفاصيل مثيرة بمحاكمة البشير والحقيبة الغامضة وأسئلة الدفاع المُربكة

تحت عنوان ” البراءة تلوح داخل حقيبة فضية غامضة وفريق الدفاع يعثر على كعب أخيل، مشاهد مثيرة من جلسة محاكمة البشير الأخيرة، سرد الصحفي السوداني “عزمي عبدالرازق” تفاصيل مثيرة خلال جلسة محاكمة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، التي انعقدت صباح يوم السبت بحسب ما نقلت “كوش نيوز”.

وسرد “عزمي” تفاصيل مادار بالجلسة بيراعه وكأنه ينقش نقشاً وهو يحكي ببراعته قائلا : بزغ يوم السبت ممطراً وبلا شمس، كانت العاصمة السودانية الخرطوم غارقة في سبات عميق، يتهددها النيل بالغرق، جداريات الثورة بدأت ألوانها تذبل شيئاً فشيئاً، طوال طريق الأسفلت المتآكل الذي يربط بين شارع المطار ومعهد التدرييب القضائي بالخرطوم، حيث يحاكم الرئيس المخلوع عمر البشير تراصت سيارات الشرطة والأمن وناقلات الجنود بكثافة، وكان تركيز عناصر الجيش والدعم السريع طفيفاً، حيث منع التجمهر قبالة المحكمة مباشرة، وأغلقت المداخل الأربعة على بعد كيلو متر من مقر المحكمة تقريباً، وبدأت اجراءات الدخول لفريقي الدفاع والاتهام وأسرة المعزول، إلى جانب الصحافة المتعطشة للمعلومات، قبيل ساعة ونصف بالضبط من انطلاق جلسة المحاكمة المحدة سلفاً لسماع الشهود.

في البدء وصلت سياراتي لاندركروز مظللة بالكامل، دخلت مقر المحكمة وخرجت في غضون عشر دقائق، أعقبتها عربة الأدلة الجنائية، على متنها الكلاب البوليسية المدربة جيداً على كشف الجرائم، لم يكن ثمة جريمة مُعلنة، وانما متهم بحجم رئيس دولة سابق يحمل أكبر رتبة عسكرية في الجيش، وقد حكم بلاده لثلاث عقود قبيل أن يطيحه انقلاب عسكري، أخذ الصبغة الثورية بصورة مدهشة .

مشاهد قبل الجلسة
وصل فريق هيئة الاتهام المكون من عشرات المحامين الكبار الذي يمثلون رموز النظام السابق نفسه، على رأسهم رئيس البرلمان أنذاك أحمد إبراهيم الطاهر، ونقيب المحامين السابق أيضاً عبد الرحمن إبراهيم الخليفة، إلى جانب المحامي الشهير هاشم أبوبكر الجعلي، ومحمد الحسن الأمين، جميعهم اختارهم الوطني للدفاع عن رئيسه حبيس الجدران، وهو دفاع عن رمزية النظام كله ممثلاً في البشير، كما يبدو.

دخل البشير القاعة قبل عشرة دقائق من بداية الجلسة وهو يرتدي جلباب ناصع البياض، وملفحة مشغولة باللون البني، وعصاء لم يتخل عنها، وبمجرد أن حل في المكان، انطلقت تكبيرات الأسرة التي أخذت النصف الأول من المقاعد الوسطى، كان مأخوذاً بما يرى ولم يكن مضطرباً، جال البشير بنظره في كافة أنحاء القاعة، وهو يتلقى التحايا من أفراد أسرته، غالب الحضور من النساء، والأقارب من الدرجة الأولى تقريباً، وقد انفجرت احداهن بالنجيب المختنق، لكنها بدت سعيدة بالطمأنينة التي اعتلت وجه كبير الأسرة، كما ينظرون له.

كان البشير يقف داخل القفص الحديدي المنتصب في الزاوية الشرقية من قاعة المحكمة، والتي اتسعت للحضور، يحيط به إثنين من القوات الخاصة، أحدهم برتبة رائد، إلى جانب شرطة السجون، المحكمة أختيرت بعناية لعزل هتاف الشارع، وقد حل الصمت مجدداً بعد صعود القاضي للمنصة، المتهم كان يجلس على مقعد مريح، تلمع أسنانه مع أضواء الفلاشات الهاربة، وقد وقف أيضاً عند اعلان صوت الحاجب ” محكمة” .. كانت عقارب الساعة تؤذن بتمام العاشرة صباحاً.

بيان شهود الاتهام
مثل شهود الاتهام خمسة من النيابة العامة، وقد تم اعلان ثلاثة منهم للاستماع، من جملة خمسة، وكانت هذه الجلسة الأخيرة للاستماع لشهود الاتهام، أخذت أهميتها من كون الشهود باشروا التحريات عقب الاطاحة بالبشير، أغلبهم من القوات النظامية، وأبرزهم بالطبع وكيل نيابة أمن الدولة السابق معتصم عبد الله محمود، الذي بدا مرتبكاً بعض الشيئ وهو يتلو شهادته المسكونة بالثغرات، وفقاً لتصويب فريق الدفاع، ولعل من المهم الإشارة إلى أن معتصم قبيل أن يكمل كافة اجراءات التحري في هذه القضية أُعفي من مهمته، ونقل إلى المحكمة الخاصة بجرائم دارفور تقريباً، بشكل يحتاج إلى تفسير .

أموال أجنبية في بيت الضيافة
قال الشاهد الأبرز وقد أطرقت القاعة جيداً، أنه تلقى عريضة من قبل جهاز الاستخبارات الخاصة، مفادها وجود مبالغ مالية، بالعملة المحلية والأجنبية، داخل منزل المتهم، أشار إلى أنها موجودة بطريقة غير شرعية، وقد باشر تحريك الاجراءات تحت المواد (47 و34) من قانون الاجراءات الجنائية، وأصدر أمراً بتفتيش منزل المتهم، نسبة لما رشح عن معلومات لمساعي تهريب تلك الأموال خارج منزل المتهم، وهو بيت الضيافة الملحق بوزارة الدفاع، وقد أشار له أحد الضباط أن الأموال قابعة داخل غرفة أشبه بمخزن في نهاية الرواق، مؤكداً أن الغرفة كانت مغلقة، وأن المحتويات موجودة داخل ادراج حديدية بمفاتيح على الجدار، وخزنة بالأرقام، كانت هنالك أيضاً دواليب ومصحف ألكتروني، ومقاعد مبعثرة، وحقيبة داخلها المبلغ المالي المشار إليه، لذلك استدعى على الفور محاسب من البنك هو الشاهد الثالث، وماكنتين لعد الأموال، التي اكتشفوا أنها 5 مليون جنيه من العملة المحلية، و6 مليون يورو، ودولارات قال إنها لا يتذكر قيمتها بالضبط، وقام بعد ذلك بفتح بلاغات بموجب قانون النقد الأجنبي، وقانون غسيل الأموال، وأودعت الأموال كلها كأمانات في بنك السودان، منع التصرف فيها، وأضاف معلومة كما لو انه استحضرها في الحال، وهى عثوره على دفترين من الشيك بإسم المتهم عمر البشير، من بنكين مختلفين، لافتاً إلى وجود شخص لم يسمه قال أنه حرك تلك الحسابات المفتوحة بإسم الرئيس السابق، أي أن الحساب الثاني كان يتحرك بواسطة شخص خلافاً للمتهم، وأشار إلى أن الحقيبة التي عثر فيها على الأموال، جافة ومتوسطة الحجم.

سين في قفص الاتهام
من المعلومات التي يبدو انها مهمة، لجهة تركيز وكيل النيابة السابق معتصم عبد الله عليها، العثور على عبوات فارغة خاصة بمطاحن سين للغلال بالقرب من الأموال، ما يعني ان مدير شركة سين تحت مرمى النيران، إن لم يكن خضع للتحقيق بالفعل، لكن المحامي هاشم الجعلي الذي تصدى لسؤال وكيل النيابة، سأل الشاهد بشكل أربكه، وتحولت الإجابة إلى نقاط مهمة في القضية، كما لو أن فريق الدفاع سيبني عليها مرافعة براءة المتهم، وهو إذ ما كان معتصم عبد الله يتحدث كشاهد أم وكيلاً للنيابة، وهو فرز تدخل القاضي في منعه، على اعتبار أن المحكمة هى التي ستصنف الرجل لاحقاً.

أسئلة الدفاع المربكة
ركز ممثل فريق الدفاع على تحديد دور وكيل النيابة في التأكد من وجود شخص من أسرة المتهم أثناء التفتيش، أو المتهم نفسه، قال معتصم ” تابعت بقية الاجراءات، ولم أجد أحداً من شاغلي المكان” وجاء السؤال الثاني مباغتاً ربما، هل تعلم بوجود جزء سكني ومكاتب ادارية داخل المبنى؟ قال لا أعرف، وأردف الدفاع : هل تعلم أين وجدت المبالغ المالية في المساكن أم المكاتب الإدارية، وهل حضرت التفيش الأول لحظة العثور على المبلغ، فأجاب الشاكي ” لا لم أحضر” كان القاضي حريصاً على تحديد الإجابة بدقة، وفقاً لمقتضى السؤال .
توالت أسئلة الدفاع للشاكي الأبرز، أو المتحري الأبرز في القضية المثارة ضد الرئيس المخلوع، هل عندك فكرة من أين جاءت مفاتيح الغرفة التي عثرت فيها على المبلغ، وكيف فتحت الخزنة والأدراج؟ فأجاب أيضاً ” لا ليس عندي فكرة” ومن ثم جاء السؤال الكبير إزاء الدافع وراء القضية، وهو الكيفية التي تأكد بها وكيل النيابة السيد معتصم من مساعي تهريب المبلغ، ومن حاول التهريب بالضبط؟ فقال أنه لم يكمل اجراءات التحري ليتأكد، وتم نقله إلى إدارة أخرى، وبالتالي لا يستطيع بذل إجابة قاطعة على هذا السؤال، والأسئلة الأخرى الفرعية، المتعلقة أيضاً بتحديد مصدر المال الذي عثر عليه في منزل المتهم، وكيفية فتح الخزانة، منبهاً إلى أن مهام النيابة التي كانت تباشر التحري أوكلت إلى إدارة مكافحة الفساد.

الشاهد باقتضاب
الشاهد الثاني كان برتبة رائد، وهو عبد العظيم طه من القوات المسلحة، على كتفه علامة الصاقعة، بدأ يجاوب باقتضاب، وقد أشار إلى تاريخ (17/4/ 2019) قبيل أن يكشف قليل من المعلومات المطلوبة، في البدء تقدمت هيئة الدفاع بطعن في استدعاء الرجل، باعتبار انه نظامي ولا تقبل شهادته قبل أن تأذن له الوحدة التي يعمل فيها، هنا تدخل القاضي وأبطل الطعن، مردداً بأن هذا الاشتراط فقط خاص بالقضايا التي تتدفق فيها المعلومات العسكرية، ولكن هذه القضية جنائية، وبالتالي لا مشكلة من شهادة الضابط، وقد رفض الطلب واستسلم ممثل هيئة الدفاع، بينما أوضح الرائد عبد العظيم بأنه كان من ضمن لجان الاستخبارات التي قامت بعملية التفتيش، والتي باشرت عملها في السابعة والنصف صباحاً من ذلك اليوم، وأشار إلى تفتيش مكتب بملاحقاته، ومضيفة داخل مقر المتهم، وقال أنه لم يحضر لحظة العثور على المبلغ، وهنا تهللت وجوه فريق الدفاع، وأشار إلى نفس إفادة الشاهد الأول، بوجود مبالغ مالية من العملة المحلية والأجنبية، وكانت المفاجأة أن القاضي عرض حقيبة فضية كبيرة، وسأل الضابط : هل هذه نفس الحقيبة التي عثر بداخلها على الأموال؟ فإجاب الضابط : لا أتذكر أنني رأيت هذه الحقيبة.

انفجار المحكمة بالضحك
الشاهد الثالث كان موظف في بنك أم درمان الوطني فرع القيادة، وقد جاء بصفته محاسب تم استدعاؤه من قبل مدير الفرع وضابط في القوات النظامية للذهاب إلى القيادة، واصطحاب ماكينة عد النقود، وقد فعل ذلك، ووجد المبلغ، الذي فصله بأنه 6 مليون يورو، 51 ألف وسبعمائة دولار، 5 مليون جنيه سوداني، أفاد موظف البنك أن المبلغ كان موجودا في درج مفتوح، وأنه لا يعلم إذ ما كنت العملة التي عُثر عليه جديدة أم مستعملة، وعندما عرضت عليها الحقيبة الفضية، أجاب بأنه غير مستحضر إنه قد رأها بالضبط ، وعندما سأله الدفاع، هل تعرفت على المكان الذي وجدت فيه الأموال، أجاب موظف البنك” أول مرة أدخل الحتة دي” فضجت القاعة بالضحك ، كان البشير أيضاً قد ابتسم بصوت غير مسموع.

كعب أخيل الاتهام
لم يتوقف الرئيس السابق عمر البشير من تسجيل بعض الانقاط المحدودة، في ذاكرته غالباً، وكان يتابع باهتمام، تفاصيل لا يبدو أنه مندهش من تدفقها، أو أنه متأكد من البراءة، لجهة عثور فريق الدفاع على كعب أخيل الاتهام، أي الموضع الذي يسهل منه النيل من الشاكي للحصول على البراءة، وهى ثلاث نقاط، غياب المتهم لحظة التفتيش وحقيقة العثور على المال في المكان المشار إليه بالضبط ومصدره ، والجهة التي فتحت الخزنة دون حضور الشهود، إلى جانب الإشارة إلى أن هذا المال خاص بالرئيس البشير منحته له السعودية والإمارات، ويتصرف فيه وفقاً لتقدير الأولويات.

غير أن ثمة شاهد أخر مهم لم يحضر، التمست الجهة التي يعمل فيها من القاضي تأخيره إلى جلسة ثانية بسبب مأمورية خارجية، وهو ضابط رفيع في الجيش رأى كل شيء تقريباً.

الافراج عن البشير
عطفاً على ذلك فقد قررت هيئة الدفاع تقديم طلب بالافراج عن المتهم عمر البشير بالضمانة، وقبل ذلك السماح لهم بزيارته، لأن الزيارة تم تقليصها إلى الزوجة التي لم تحضر الجلسة، ومنع أخوانه منها، وقال محمد الحسن الأمين أحد أفراد فريق الدفاع المكلف، أن المبلغ الذي عثر عليه بحوزة البشير جاء كمنحة وهو في إطار التعاون بين الرؤساء، مشيراً إلى أن الرئيس المعزول تصرف فيه ولم يأخذ منه دولاراً واحداً معتبراً أن هذا المال لا يسوى أن يكون محل اتهام نسبة لمسؤوليات البشير الكبيرة، وأن المبلغ تم الصرف منه في أوجه ضرورية متعلقة بالأمن القومي.

في الخارج بدا أنصار البشير يحتشدون لمناصرته، بينهم قيادات طلابية وشبابية في حزب المؤتمر الوطني، وكانوا يطالبون بالعدالة فقط لا أكثر، رافضين ما وصفوه بالإدانة الاعلامية، وهى نفسها المشكلة التي تؤرق فريق هيئة الدفاع، المحاكمة الاعلامية، وعدم التفريق بين الاتهام والإدانة، والشكوك المثارة حول ضعف الاتهمات، وربما تؤرق المحكمة أيضاً، التي سمحت بدخول كاميرات التلفزة والصحفيين، بعد أن صادرت الهواتف الشخصية، ومنعت أجهزة البث المباشر، وطوال أمد الجلسة التي استمرت لأكثر من ساعتين، ظل البشير صامتاً، ولم يطلب حتى فرصة لاستجواب الشاهد، واكتفى بممثل الدفاع فقط، وكان يتفحص القاعة ببطء كما لو أنه يبحث عن شخص توقع حضوره دون الأخرين، ولم يجده.

وأوردت وكالة الأناضول أن المحكمة استمعت لإفادات الشهود الثلاثة، في وقت اعتذر فيه الشاهد الرابع عن المثول أمام المحكمة لوجوده خارج البلاد. وقد حددت هيئة المحكمة السبت المقبل 31 أغسطس الحالي موعدا لمواصلة جلسات مقاضاة البشير، والتي تجري في معهد العلوم القضائية والقانونية في العاصمة السودانية الخرطوم.

الخرطوم (كوش نيوز)

Exit mobile version