الفكرة مثل الكائن الحي تحتاج لطعام وسقيا وحماية كي تبقى حية، ولكي تتطور الفكرة لابد من مراجعتها في كل الاحيان بإضافة أبعاد جديد لها، وبالتنازل عن بعض مرئياتها، لانها ببساطة ليست المطلق.
لكن حين يمارس معتنق الفكرة عبادتها، فأنها يتحول المعتنق إلى دوغائي ينكر ضوء الشمس وهو يرى من خلالها.
منذ أن تعرفت على ياسر عام83 لمحت فيه طموحا سياسيا أكبر منه، ومن الحزب الشيوعي الذي كان ينتمي له، واكبر من دول الجوار المحيطة بالسودان، حلم يمتد بلا مدى، غير أن أخطر علاماته هي استحالة وجود وسائل كافية لتحققه.
ولان الحلم هو الذي يحرك الفكرة، انسلخ ياسر من الحزب الشيوعي، لكنه ليس ذلك الانسلاخ الذي يمس بجوهر الفكرة في بنائها الماركسي، إنه إنسلاخ ناقد لوسيلة تحقق جوهر الفكرة الماركسية، فياسر يميل لتجارب أمريكا اللاتينية وينبهر بجيفارا وبالراحل بشار الكتبي. ازدهر حلم ياسر الكبير وتفتح مع الشعارات الماركسية التي رفعها قرنق فانضم للحركة كأن المنادي الماركسي صاح به فقال ياسر (لبيك قرنق) صارت لياسر وسيلة لتحقيق ذلك الحلم هو الجيش الشعبي لتحرير السودان وفاض الحلم حين انضمت مجموعات من جبال النوبة والنيل الأزرق وبعض الشماليين، وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة القادرة على تحقيق ذلك الحلم، بعد أن صار للحركة الشعبية جيشها وصار لها ذراع سياسي طويل أصبح أهم مكونات التجمع الوطني.
غير أن هذا الاحتشاد الكافي لم يحقق حلم ياسر في سودان جديد، فقد رحل قرنق وانفصل الجنوب، واشتجرت أطرافه، مقدمة أسوأ نموذج حكم قبلي لن يستقر إلا إذا قضت قبيلة على الأخرى.
فقد ياسر وسيلته لتحقيق ذلك الحلم العاصف بمقتل قرنق وبانقسام الجيش الشعبي بعد انفصال الجنوب وبعودة أحزاب الشمال كل حزب لغمده وبدأت الأحزاب حوارا مع المؤتمر الوطني وصفه كمال عمر في صحافة الأمس بالناجح.
الفرق بين كمال عمر وياسر أن الأول إسلامي والثاني مسلم مفترض، والاسلامي يتعامل مع الأحلام بطريقة شرعية خوفا من الفتنة أما المسلم العادي فيظل مفتتنا بالحلم!.
بحوزة ياسر الآن وسيلة واحدة جاهزة لترجمة الحلم إلى مهمة قتالية تحت شعار (السودان الجديد) تلك الوسيلة هي القوة العسكرية للفرقتين التاسعة والعاشرة بدعم مباشر من قوى دولية وإقليمية في مواجهة الجيش السوداني، والدفاع الشعبي، والمجاهدين ومعظم الأحزاب الشمالية، والارث العربي الاسلامي وأغاني الحقيبة، وثقافة الوسط، وكل شيء!!.
يستند ياسر الآن على هذه الوسيلة فقط لا غير بلغة الشيكات، لكن المدهش أن الفرقتين ليستا في طاعته وليس بمقدوره إصدار التعليمات العسكرية لهما وليس بوسعه صد الريح والنواية عن وجهين عقار والحلو وهما (أسياد القهوة).
حكيت لياسر ذات مسامر في منزلي قبل انفصال الجنوب عن رجل استأجر (فتوة) كي يعيد له مالا استدانه منه رجل آخر، على أن يعيطه نصف المبلغ وكان ياسر يراهن على الوحدة، لأن حلمه يتحقق بها، حكيت له أن (الفتوة) ذهب للمستدين وشهر سلاحه فخاف الرجل وتوصل معه بأن يدفع نصف المبلغ الآن، والآخر في الشهر القادم فقبل (الفتوة) وأخذ نصف المبلغ، وكان الرجل الذي استأجر ينتظره قرب منزل المستدين، وعندما سأله (أها إن شاء الله خير) قال له (الفتوة) وكان قد وضع المبلغ في جيبه (يا خي زولك دا صعب تتصور يا دوب طلعت بي حقي)!.
صديقنا ياسر (أطرد الاحلام يا جميل وأصحا)!.
[/JUSTIFY]
أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني