الثورات السودانية .. بين الشعارات والواقع

حرية سلام وعدالة .. والثورة خيار الشعب ، كان ذلك هو الشعار الذي دفع عشرات الشباب السودانيين أرواحهم فداء له ، في مواجهة الآلة الأمنية الغاشمة لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير ، لكن هل يمكن أن يكون الإنحراف عن هذا الشعار الذي كان ملهما للثورة السلمية عامل هدم لما أنجزته الثورة خلال الأربعة أشهر من عمرها ؟؟
الثورة في الغالب هي تغيير تحفزه مجموعة من المطالب والأحلام ، ومن بين شعارات الثورة صيغت المطالب ، ومن بين أوجاع الصبر على سلميتها تأسس وعي من شأنه أن يكرس للحرية ويضمن السلام ويحقق العدالة في سودان الغد ..
لكن هل كل شعار قابلٌ لأن يصبح واقعا ؟؟
نعود لتاريخ يونيو 1989 الذي يشبه أبريل 2019 في كثير من ملامحه ، فالبلاد في يونيو كانت قد وصلت لدرجة من سوء الخدمات وإنعدام الأمن وفساد الإدارة وغفلة السياسيين وتدهور الإقتصاد لأدنى مستوى ، تماما كما هو الحال في أبريل 2019 ، وقد صعد العسكر في يونيو وساندهم الشباب السوداني بكل حماس وأنضم لحزبهم وكيانهم الجامع وكانت شعاراتهم يومها (نأمل مما نزرع ونلبس مما نصنع) و (نسود العالم أجمع) ووجدوا دعما شعبيا يقارب -نسبيا- ما ظهر في ثورة ديسمبر – ابريل 2019 ، لكن ليس كل شعار يمكن أن يكون واقعا ، فقد أنحدرت دولة الإنقاذ لأن تكون مملكة إستبداد ومركزية فساد حتى سقطت غير مأسوف عليها ..
فقد قامت (ثورة) الإنقاذ على أنقاض نظام طائفي فاسد وديمقراطية هشة وعلمانية مشوهة وطرحت بدائل مضادة لما كان سائدا ، وقامت ثورة الشباب في ديسمبر على أنقاض نظام فقير وشائخ وشائه لا هو إسلامي ولا علماني ، نظام يفتقد للبوصلة والمنهج ، لكن يوم أن حاكم السودانيون النظام المخلوع حاكموه بما أتى به من شعارات (شعارات الدين) والمجتمع الرسالي والمشروع الحضاري ، لذا سيحاكم المجتمع السوداني القوى السياسية الجديدة في المشهد السياسي بشعارات (حرية سلام وعدالة) وهي شعارات أوسع وأشمل من شعارات الدين وأعمق تأثيرا في نفوس السودانيين .
قامت ثورة أكتوبر 1964 لأسباب ليس من بينها ضغط المعيشة ولا ظروف الحياة وإنما أستثارت الأحزاب الجماهير على التضييق السياسي وكتم الحريات ، ومع أن الوضع العام كان جيدا في ظل حكومة عبود العسكرية والتي أنشأت مشاريع إقتصادية ضخمة ومؤسسات رائدة وأسست لسياسة خارجية فعالة وديناميكية وعلاقات مع الشرق والغرب ودول عدم الإنحياز في وقت كانت الحرب الباردة في أشدها ، لكن كان دور الأحزاب المحظورة وقتها قويا عبر الواجهات والنقابات ما جعل شعار (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) واقعا ، فسقط الجنرال عبود الذي كان شعاره (جئتكم بصداقة الشعوب) وشعار وزرائه (أحكموا علينا بأعمالنا) وبعد سقوطه كان شعار الجماهير (ضيعناك وضعنا وراك) في حكم على من خلفوه والذين أتاحوا الفرصة بأخطائهم للحكم العسكري الثاني في السودان بقيادة العقيد جعفر محمد نميري الذي جاء على على صهوة شعارات الحزب الشيوعي السوداني ، وكما قال أحد المثقفين الإسلاميين بعد عشرين عاما من حكم الإنقاذ (الإسلاميون لم يحكموا بعد) كذلك يقول مثقفو اليسار السوداني (اليسار لم يحكم قط) في سعي من مثقفي التيارين للتخلص من الحمولة السياسية السلبية للحكم العسكري .
حكم نميري ستة عشر عاما تقلب فيها بين المعسكرات غربا وشرقا وعدم إنحياز حتى كانت شيخوخة نظامه على (النهج الإسلامي لماذا؟) وهو عنوان الكتاب الذي كتبه جعفر نميري ويرجح كثير من المحققين أن كاتبه هو الدكتور عون الشريف قاسم ، فسقط نميري بثورة أبريل 1985 وذلك بعد خمس سنوات من مصالحة وطنية جمع فيها كل الأحزاب السياسية في كيان سياسي جامع ، وبعد سنتين من إنهيار إتفاقية السلام بين الحكومة والحركة الشعبية المسلحة في جنوب السودان ، وبعد سنتين كذلك من إقرار قانون أصول الأحكام القضائية المسمى ب (قانون سبتمبر) والذي يرجع تفسيرات الأحكام للشريعة الإسلامية ، وبعد سنة واحدة من مجاعة ضربت البلاد وأحدثت تغييرا ديمغرافيا كبيرا وهجرات داخلية من عدد من مناطق السودان ، وكلها عناصر تحالفت ليلقى النظام حتفه منهارا في نهاية المطاف .
لكن هل أصلحت حكومة أبريل المنتخبة الأسباب التي أدت لإنقلاب نميري ؟ أم سعت لضمان عدم تكرار الدائرة الخبيثة مرة أخرى في البلاد ؟ بالقطع لا ، فكما كانت الفترة الإنتقالية قصيرة في 1964 وأجريت الإنتخابات بعدها لتعود القوى القديمة للحكم الذي ورثته من الإستعمار الإنجليزي ، ما أعطى القوى التقدمية والقومية واليسارية فرصة لتصفية حسابها مع الرجعية عبر بوابة العسكر في 1969 ، كذلك قصر الفترة الإنتقالية في 1985 مع غياب التدابير العلاجية لأمراض السياسة السودانية والإكتفاء بالإجراءات الشكلية (إزالة آثار مايو) ما أثمر نفس النتيجة لتعود الأيديولوجيا الخضراء بديلا للأيديولوجيا الحمراء ومن بوابة العسكر أيضا ..
إذن التاريخ لا يكرر نفسه إلا مع الأغبياء ، فلم تتعظ كل أنظمة الحكم في السودان بما خلفته اخطائها على العملية السياسية ، وبدءا من أول إنقلاب قاده الأمير ألاي عبد الرحيم شنان والبينباشي محجوب كبيدة في العام 1957 والذي قام لأسباب متعلقة بطبيعة النظام الذي ورث الحكم الإنجليزي ، ثم مرورا بتسليم حزب الأمة للسلطة للفريق عبود في إطار صراع السيدين ، وإنقلاب العقيد جعفر نميري حليف الحزب الشيوعي والقوميين العرب ، ثم إنقلاب الجبهة الإسلامية في 1989 ، فلم تعالج أي حكومة من الحكومات التي تلت تلك الأنظمة الإنقلابية الأسباب التي أدت لتسلق العسكر للسلطة ، وإنما اعطت مبررا لمن هم بعدها للسطو على حق الشعب في أن يختار من يحكمه ..
لكن الأمل كبير في ثورة ديسمبر – ابريل في ان تعيد الأمور إلي نصابها إن هي تفادت اخطاء من سبقوها وغن هي راعت لثقل المسؤولية وضخامة الشعار المرفوع ووعورة الطريق نحو الديمقراطية المستدامة المنشودة ، أضف إلي ذلك التغيرات والتحالفات الجديدة والإتجاه العالمي والإقليمي سياسيا وإقتصاديا نحو النظم المستقرة والملتزمة بالمعايير الدولية في تداول السلطة والإلتزام بشرعة حقوق الإنسان وما هو مقرر في أهداف الألفية الموضوعة بواسطة الامم المتحدة .
يبقى أن نقول أنه بعد سقوط نظام الإنقاذ فقد قامت قيامة الإستبداد السياسي في السودان ويبقى الجند ان نخطط للمستقبل معا ، وأن لا ندع فراغا تدخل منه أمراض السودان القديم وسوءاته ، لا إقصاء ولا إحتكار ولا تخوين ، دولة تشيع الحريات وتكرس للسلام وتطبق مبادئ العدالة ..
يوسف عمارة أبوسن
كاتب صحفي – مدون وناشط طوعى

Exit mobile version