خلال السنوات الأخيرة ، سيطرت على الساحة السياسية السودانية حالة من غياب الوعي ، شملت كل الأطراف بلا استثناء ، وكأن صمماً ران على قلوب صانعيّ ومتخذي القرار على كافة المستويات ، فما حرّكت فيهم أصوات الناصحين ولا الحادبين ولا القلقين ساكناً ، حتى وصلت البلاد للنقطة الراهنة .
كانت هناك حالة متفشيّة من التخوين والإقصاء داخل أطراف اللعبة السياسية جميعاً ، أطاحت بكل ذي بصيرةٍ وبكل حريص مُدبِّر ، وبدأ وكأن هناك أيادٍ خفيّة تصنع مسرحاً وتنسجُ خيوطاً لغاية هي أبعدُ من مجرد ازاحة حاكم أوطبقةٍ حاكمة أونظام حكم !! .
وخلال تلك الفترة ووسط تلك العتمة بدأ يبرز إلى السطح وبهدوء جيل جديد من الشباب المستنير ، نشط في العمل الطوعي والاجتماعي ، ضم شباباً مستقلون وآخرون منتمون من كل التيارات السياسية ، صنعوا تياراً عريضاً يملك حماساً ورأياً ، وكان هذا في حد ذاته مؤشراً إيجابياً ، شكّل هذا التيار موقفاً سياسياً جهيراً بعدئذٍ في الحراك الأخير، ويستطيع ان ينافس في الساحة السياسية داخل الأحزاب وخارجها ، إذا صوّب نظره للغد ولصالح بناء مؤسسات الدولة وبسط القانون والمحاسبة ،وإذا حافظ على تنّوعه و ديناميكيته ، وإني على ثقةٍ من أن هذه التجربة ستطِّور من قدراته و إمكانياته بصورة مختلفة عن سابقيه .
في هذا السياق ، لعلّ دعوة القيادي الشاب في الحريّة والتغيير د. محمد ناجي الاصم لِجماعته بالاستمرار في العملية السياسية والتفاوض ، نقطة مهمة في الإطار اعلاه ، وهي مؤشر الى أن هولاء الشباب انتبهوا وفهموا بدرجة أسرع من الساسة المخضرمين أن التحوّل من معارضٍ لصانع سياسات يقتضي منهجاً جديداً، فالأصم يسعى لصناعة التحوّل الذي ينشده عبر آليات الدولة في ظل استقرار عام ومع انتباهة الى أهمية تماسك جبهته الداخلية ، ولعمري هذا نُضج يحسب له ، حبذا لو استمع العقلاء لقول هذا الشاب ، ولم يسارع ذوو الغرضِ او محدودي الأِفقِ الى تخوينه ومحاولة إقصائه .
لطبيعة المرحلة التي نمرُ بها الان ومناخ عدم الثقة السائد ، سيتبادر الى ذهن البعض تساؤلٌ عمّا هو الهدف من الإشادة بهذا التوجه ؟ طبعاً هناك أكثرُ من هدف وجميعها، اهم من المكاسب السياسية الضيقةً :- .
•إن من مصلحتنا كسودانيين أولاً هي استقرار البلاد وفق اي معادلة سياسية عاقلة تؤسس لمستقبل افضل .
•إن من مصلحة الإسلاميين كفصيل سياسي ذو تجربة وخبرة ، وكذلك الكيانات السياسية الوطنية الاخرى ، الكبيرة والواعية ، عودة الحياة لطبيعتها ، بالنسبة للمواطن وحركة الاقتصاد ، لأن نتيجة تطاول الصراع والأزمة كارثيَّ ، فاذا فشل الموسم الزراعي مثلاً مع حلول موسم الفيضان والدولة معطلة ولاح شبح شُح السلعِ في الأسواق ، حينها سيكون هناك حراك جماهيري خارج عن كل سيطرة ، سببه الجوع ….وحينها ستكون الخسارة عامة ولن ينفع حينها الندم.
•إن من مصلحة المجتمع ان تستمر حياته بصورة طبيعية ، والا يندلع صراع عنيف يتخطى وسائل العمل السياسي السلمي ، فيتحوّل الجميع لنازحين او لاجئين .
ربما يأتي احدهم من صفنا او من خارجه ليقول إن هولاء الذين تطلبون منهم إعمال صوت العقل والوصول لمعادلة حكم متوازنة هم خصومكم ؟ نعم صحيح ! إننا مختلفون على طرفيّ المعادلة السياسية الحاليّة ولكن للإختلافٌ السياسيّ آليات مصممة خصيصاً لتجنب الصراع او السقوط نحو الهاوية..! وهذا أمرٌ طبيعي يحدث في العالم كله…إن اختلاف التقديرات والتوجهات السياسية ، لا يعني بالضرورة العداوة ولا الكراهية ولا القطيعة بين مكونات المجتمع ، هم ليسوا عدو لنا ، وفق الدين والمنطق ومعادلات السياسية التي ليس فيها عداوة دائمة .
ورب قائلٍ : لكنهم يعتبرونكم أعداءً ، وسيحاربونكم !!
أقول نعم سيفعلون !! ولكن في هذه المرحلة الفارِقة والدقيقة من تاريخ الدولة والشعب ، نحن نتحمّل جزءاً مُقدراً من المسئولية الاخلاقيّة والوطنيّة ، حتى وإن كُنا نقفُ الآن في الضفة الأخرى من المعادلة ، و لدينا تجربةً أكسبتنا خبرةً ووعيّاً يتجاوز الراهن وظاهره الى المستقبل وتحدياته ، ولذلك نعلم أن واجبنا في حفظ استقرار البلد وعودة الحياة لطبيعتها ،لا يقل عن واجب خصومنا السياسيين ، وهو ما يقتضي منا أن نُطمئن القلقين منهم حتى لا نزيد من مستوى التوتر العام وحتى نساعد على عودة الاستقرار .. إننا لم ولن نحوِّل الاختلاف والخصومة السياسيّة لعداوة ، وسنعُليّ من صوت العقل والحكمة ، ليس عن ضعفٍ ، ولكنه توجيه النبي صلوات ربي عليه حين قال في الحديث الذي رواه ابوهريرة رضي الله عنه : ( ليس الشديد بالصُرعة ، إنما الشديدُ الذي يملك نفسه عند الغضب ).
إن تجربتنا الذاتية تقول إن الدولة ومسئولياتها وهمّها ليست أمراً سهلاً ، وستستوعب الحُكام الجُدد كما استوعبتنا !! فتحدي الخدمات ومطلوبات المجتمع ، وفاتورة الغذاء والدواء ، وديمومة السلام وحفظ أمن البلاد ومحاربة الجريمة وتوفير مدخلات الإنتاج والاستعداد للخريف ….الخ ، يجعلُ الحُكم في السودان حِملاً ثقيلاً ، فنحن قد غرقنا هناك بكل تنظيمنا وعلاقاتنا …طوال ثلاثين عاماً ..ونعلم أن ليس من حاكمٍ عاقلٍ سيظل في مواجهة تحديات الحياة اليومية ، مشغولاً بالكراهية او الصراع ، لابد ان يتحوّل المناضلون السابقون من خانة المعارضة الى الحُكم ، ومن مجرد جهات مطلبيّة الى متخذي قرار وحكّام يبحثون عن النجاح ، والاستقرار …
سناء حمد ..
٣١ يوليو ٢٠١٩