رغم محاولات فكّها .. ألغاز و أساطير في “رمش العين” لا تزال مستعصية!

رمش العين، هذه الحركة المألوفة والغامضة في الوقت نفسه، ليست كما كان يُعتقد سابقاً، مجرد نشاطٍ شبه تلقائيٍ وغير واعٍ لترطيب قرنية العين. فالمرء يرمش في المتوسط أكثر من 13,000 مرة في اليوم، مما يجعل هذه الحركة تتعدى الوظيفة البيولوجية البحتة للحفاظ على رطوبة العين. وبعدما كانت الدراسات العلمية الهادفة إلى فهم طبيعة رمش العين قليلة نسبياً، إذ لم تكن تثير اهتمام كثير من العلماء، يأتي الربط ما بين العين ورمشها من جهة والتقنيات الحديثة وبعض تطبيقاتها الذكية من جهة أخرى، ليعزِّز الأبحاث العلمية في هذا المجال. ورغم كثرتها، لا تزال هذه الأبحاث غير حاسمة في ما توصلت إليه حتى الآن.

في بحثٍ علمي واسعٍ قام به مجموعةٌ من العلماء اليابانيين من عدة جامعات، ومن اختصاصات مختلفة، للإجابة عن السؤال: “ماهو رمش العين”؟ استُهلت الخلاصة بالتالي: “يبقى مجهولاً سبب قيامنا برمش العين تلقائياً كل بضع ثوانٍ، لأنه أكثر من اللازم لتشحيم العين”. وهكذا فإن الرمش لا يزال لغزاً فسيولوجياً لمعظم علماء اليوم.

فقد تكثَّفت الأبحاث العلمية حول رمش العين في الآونة الأخيرة نتيجة أهميتها في تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها. وعلى سبيل المثال، أدخلت برمجيات “أدوبي فوتوشوب” في عام 2017م، ميزة “عيون مفتوحة مغلقة” إلى عناصرها الأخرى لتتناسب مع رمش العين. ويدرس مهندسو “فيسبوك” إدخال هذه التقنية أيضاً في المستقبل. كما أن ازدياد استخدام لغة الصور على نطاقٍ واسع في مواقع التواصل الاجتماعي حول العالم، مثل الإيموجي وغيرها، دفع في الاتجاه نفسه. ويعتقد كثير من الباحثين أن الربط ما بين رمش العين وبعض التطبيقات الذكيـة سيتعزَّز أكثر فأكثر في المستقبل.
أنواع الرمش

هناك ثلاثة أنواعٍ طبيعية من الرمش:
01
الرمش اللاإرادي، الذي يحدث لتشحيم العين، أو لغسلها أو حين يغزوها الغبار أو جسيمات ضارة.
02
الرمش الإرادي، حين يقرُّر المرء بشكل واعٍ أن يرمش. ولكن الغمز، الذي هو عمل إرادي بحت، ليس هو ما يشغل العلماء في الوقت الحاضر.
03
الرمش ذو التنشؤ الداخلي، أو لأسباب من داخل الجسم نفسه. وهذا هو النوع الذي يحوز الأبحاث المختلفة، خاصة في الفترة الأخيرة.

الوظيفة البيولوجية لرمش العين

يرمش الشخص العادي حوالي 15-20 مرَّة في الدقيقة بشكل متكرّر، لدرجة أن العين تغلق لمدة %10 تقريباً من ساعات استيقاظ الشخص العادي. فالجهاز العصبي يمَكّن الشخص من الرمش لمنع دخول المواد الضارة إلى العينين بواسطة سائل تفرزه الغدة الدمعية وينقله الجفن إلى سائر العين. وإذا ما تهيجت العين نتيجة دخول الغبار أو جسيمات متطايرة، تفرز الغدد الدمعية دموعاً إضافية لغسل الشوائب. أما السائل الزائد فيتصرف عبر القنوات الدمعية إلى التجويف الأنفي.

يتم ذلك عن طريق ارتخاء عضلة الجفن العلوية وتنشيط عمل العضلة التي تلف العين لنشر السائل الدمعي على سطح القرنية والشبكية. وتتأثر هذه العملية بعدة عوامل مثل الأمراض والأدوية والإرهاق والكدمات مما يزيد أو ينقص من سرعتها.

ويتغيّر هذا المعدل من الرمش في حالات الانتباه الشديد والإجهاد والإثارة وتهيج العين ومقدار النوم. وبشكل عام، عندما ينام المرء أكثر، يحتاج إلى أن يرمش أقل. كما أن هناك تبايناً واسعاً في معدل الرمش بين الأفراد. وقد يكون السبب مكوّناً وراثياً، وقد يكون هناك أيضاً مكون ثقافي وراء ذلك.

ويختلف الرمش عند الأطفال في الظروف العادية كثيراً عن البالغين. فحديثو الولادة يرمشون بمعدل أقل من مرتين في الدقيقة، ويرتفع هذا المعدل بالتدريج من عمر الطفولة إلى البلوغ. وهكذا، بحلول سن الرابعة عشرة تقريباً، يرتفع معدل الرمش إلى حوالي 10 مرات في الدقيقة. وفي سن الثامنة عشرة، يصبح ما بين 10 و15 مرّة.

ويقول الدكتور صموئيل سلامون من “مركز كاتاراكت” للعيون في كليفلاند بولاية أوهايو: “من المحيّر ألاَّ يعاني الأطفال من جفاف العين بسبب قلة الرمش عندهم. وقد يكون السبب في أنهم ينامون كثيراً. وبالتالي، فإنهم يقضون وقتاً طويلاً مغلقين أعينهم، فتكون العيون الجافة أصغر مشكلة بالنسبة لهم”.

أما بالنسبة لغير البشر، فمن المعروف أن جميع المخلوقات الكبيرة والصغيرة ترمش، باستثناء الأسماك والثعابين وغيرها من الحيوانات التي ليس لها جفون. ثم هناك بعض الحيوانات مثل السلاحف البرية والقداد أو الهامستر ترمش بعين واحدة دون الأخرى وتشبه الغمز عند الإنسان.
الرمش يشير إلى حالة ذهنية معيَّنة

درس فريق العلماء اليابانيين المذكور سابقاً، الذي نشر نتائج بحثه في دورية “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم” الأمريكية في عام 2013م، رمش العيون عند مجموعة من الأشخاص يشاهدون شريط فيديو، ولاحظ أن رمش العين يميل إلى الحدوث عند نقاط التوقف أثناء مشاهدة مقاطع الفيديو. ولذلك، افترض فريق البحث، أن الرمش يترافق مع تكثيف الانتباه، وأن إغلاق أعيننا لفترة وجيزة قد يساعدنا في الواقع على جمع أفكارنا وتركيز الانتباه على العالم من حولنا.
الرمش.. ليس عشوائياً

وكانت أبحاث سابقة حول الرمش قد توصلت إلى فرضية مثيرة للاهتمام اعتمدت عليها الأبحاث الجديدة؛ وهي أن اللحظات الفعلية عندما نرمش ليست عشوائية، على الرغم من أن ذلك يبدو لنا تلقائياً. فقد كشفت تلك الدراسات الأولية أن الناس يميلون إلى الرمش في لحظات يمكن التنبؤ بها. فبالنسبة لشخص يقرأ، يحدث الرمش غالباً بعد الانتهاء من كل جملة، بينما بالنسبة لشخص يستمع إلى خطاب ما، فإنه يحدث غالباً عند توقف المتحدث عن الكلام. ولما كانت مجموعةٌ من الأشخاص تشاهد شريط الفيديو نفسه، لاحظ الباحثون أن جميعهم يرمشون في الوقت نفسه أيضاً عندما يتأخر المشهد التالي لفترة قصيرة.

لاختبار هذا الافتراض، وضع الفريق الياباني 10 متطوعين مختلفين في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وجعلوهم يشاهدون مقطعاً من المسلسل البريطاني التلفزيوني “مستر بين”، فلاحظوا أن جميعهم رَمشوا عند نقاط التوقف في الكلام. كما راقبوا مناطق الدماغ التي أظهرت نشاطاً متزايداً أو منخفضاً عندما رمش المشاركون.
هل هو استراحة ذهنية؟

ونتيجة لذلك، خمّن الباحثون أننا قـد نرمـش من دون وعي للحصول على نوع من استراحة ذهنية، وذلك بإغلاق المنبهات البصرية في الدماغ لفترة قصيرة لنتمكن من التركيز بشكل أفضل في اللحظة التالية.

وبتفصيلٍ أكثر، أظهر تحليلهم أنه عندما يرمش مشاهدو “مستر بين”، يرتفع النشاط الذهني لفترة وجيزة في المناطق المتعلقة بما يعرف باسم “وضع الشبكة المفترَضَة”، وهي شبكة دماغية واسعة النطاق لمناطق متفاعلة، ولها نشاط يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعضها ببعض، ومتميزة عن الشبكات الأخرى في الدماغ. ومن المعروف أن هذه المناطق من الدماغ تعمل عندما يكون العقل في حالة من الراحة والاستيقاظ الذاتي، بدلاً من التركيز على العالم الخارجي. وربما يكون هذا التنشيط المؤقت لهذه الشبكة، بمثابة استراحة ذهنية، تسمح بزيادة الانتباه عند فتح العينين مرَّة أخرى.

هذا الاستنتاج هو أبعد ما يكون عن كونه قاطعاً، لكن البحث يوضح أننا عندما نرمش، ندخل في نوعٍ من الحالة العقلية المتغيرة. إذ يمكن للرمش أن يوفِّر لنا جزيرة مؤقتة من الهدوء الاستقرائي، في بحر من المحفزات البصرية حولنا التي تحدد حياتنا من دون أن يكون لدينا خيارات ذاتية كثيرة حيالها.

قبل ذلك ببضع سنوات، لاحظ الدكتور جون ستيرن، رائد أبحاث رمش العين والأستاذ الفخري في علم النفس بجامعة واشنطن في سانت لويس، أننا “عندما نحمل في ذهننا معلومات مهمة، أو نكون في حالة انتباه شديد، فإننا نرمش أقل. فالطيارون (الحربيون) الذين يحلقون فوق منطقة صديقة، على سبيل المثال، يرمشون أكثر مما لو كانوا يطيرون فوق أرض العدو، لأن هناك معلومات أقل أهمية يجب التنبه لها”.
الرمش والابتسامة

بموازاة البحث الياباني، وفي السنة نفسها، جاء في دراسـة قامت بها مجموعة من العلماء من “معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات” الأمريكي “أن هناك دليلاً على وجود علاقة مؤقتة بين رمش العين وديناميكيات بداية الابتسامة ونهايتها. فتحدث الابتسامات والرمش بتكرار عالٍ أثناء التفاعل الاجتماعي، ولكن لا يُعرف كثير عن تكاملهما الزمني”.

ولاستكشاف هذه العلاقة الزمنية بينهما، استخدم الفريق خوارزمية تعمل في تطبيق يعرف بـ “نماذج المظهر النشط”، (خوارزمية بصرية تستخدم في التدريب لقياس ودراسة بنية الصورة للرسوم المتحركة)، للكشف عن رمش العين في سلسلة تعاقُب صور الفيديو الذي يحتوي على الابتسامات التلقائية. ثم قام بحساب المسافة الزمنية بين الرمش وبداية الابتسامة ونهايتها. وظهر أن رمش العين مرتبط بنهاية الابتسامة، ويحدث قريباً جداً عند نهايتها، ولكن قبل أن تتوقف زوايا الشفاه عن الحركة نزولاً.
هل هو أداة تواصل غير لفظي؟

يقول في هذا الخصوص بول هومك من “معهد ماكس بلانك” الألماني، قسم علم اللغة النفسي: “خلال أي محادثة بين شخصين، يميل المستمع إلى الرمش عندما يكون المتحدث على وشك الانتهاء. وغالباً ما يتزامـن هذا مع إيمـاءات الرؤوس وغيرها من الإشارات غير اللفظية التي تشيـر إلى ما مفاده أن المستمع تلقى الرسالة”.

وفي بحث جديد، أواخر عام 2018م، أجراه بول هومك وزملاؤه في المعهد المذكور، جاء فيه أن الرمش هو إشارات غير لفظية عند الدخول في محادثة، وغالباً ما يحدث عند التوقف الطبيعي خلالها. وتساءل هومك عما إذا كانت حركة صغيرة وشبه واعية مثل الرمش يمكن أن تكون بمثابة تفاعل مع المتكلم، تماماً مثل الإيماء بالرأس.

ولتقييم هذه الفكرة، ابتدع هومك وزملاؤه اختباراً جديداً يستند إلى الواقع الافتراضي، ويقوم على محادثة بين “أفاتار”، أو شخصية افتراضية، يعمل بوصفه “مستمع افتراضي” ومجموعة من المتطوعين الحقيقيين الذين يجيبون عن أسئلة من نوع “كيف كانت عطلة نهاية الأسبوع؟”. وجرى ذلك بينما كان الباحثون يتحكمون بالأجوبة غير اللفظية من “الأفاتار”.

وبينما كان المتطوعون يجيبون عن أسئلة الأفاتار، يومئ هو برأسه ويرمش. وفي وصلة من إعدادات البرنامج، كان رمش الأفاتار طويلاً، حوالي 600 ميلي ثانية، وفي وصلة أخرى قصيراً، حوالي 200 ميلي ثانية. لكن المتطوعين لم يبلّغوا عن ملاحظة مدة رمش الأفاتار، مع أن ذلك أثَّر على محادثتهم. مما يشير إلى أنهم قد التقطوا إشارات مختلفة، وتصرفوا بموجبها من دون وعيٍ منهم.

وتبين أن المتطوعين كانوا يغيرون طول ردودهم حسب إشارات الأفاتار غير اللفظية. فمثلاً عند الرمش القصير، كانوا يختصرون إجاباتهم. وقال هومك إن الرمش الطويل من الأفاتار عمل بالفعل للإشارة إلى “تسلمت الرسالة، أصبح عندي معلومات كافية، لننتقل إلى مسألة أخرى”، مما أثار إجابات مختصرة من قبل المتطوعين.

تشير هذه النتائج إلى أنه حتى السلوك الشديد الرهافة مثل الرمش يمكن أن يكون بمثابة نوع من التواصل غير اللفظي الذي يؤثر على التواصل وجهاً لوجه.

كما تعزِّز هذه الدراسة أيضاً فكرةً مهمة جداً وهي أن المحادثة، بشكلٍ عام، هي نشاطٌ مشترك، يتضمن إسهامات من المتحدث والمستمع. وقد يضيف هذا الاكتشاف إلى فهمنا كيف أن البشر تمكنوا، في الأصل، من تمثيل أحوالهم الذهنية باللغة وأشكال مختلفة من التواصل، التي تطورت لتصبح مكوناً أساسياً في التفاعلات الاجتماعية اليومية.

ويضيف الباحثون الألمان: “تبين نتائجنا أن لإحدى أكثر الحركات البشرية رهافة – الرمش – تأثيراً على تنسيق التفاعل البشري اليومي، وهذا كان مفاجئاً لنا”.

وفي هذا الخصوص، يقول عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي راي بيردويستل إن رمش العين هو من حركات الجسم التي لها معنى، وأن السلوك غير اللفظي له قواعد يمكن تحليلها بمصطلحات مشابهة للغة المنطوقة. وقدّر بيردويستل أن ما لا يزيد على 30 إلى 35 في المئة من المعنى الاجتماعي للمحادثة أو التفاعل يتم بواسطة الكلمات، والباقي بواسطـة أشكـال لغويـة أخرى ومنها رمش العين.

العربية نت

Exit mobile version