مهما تكن خلفياتنا الفكرية ومشاربنا السياسية وقناعاتنا ومواقفنا المعلنة، فإن الحقيقة تبقى ساطعة وجليّة، أنّ هناك ثورة سودانية ناجحة، عمادها الشباب بعنفوانهم وطموحاتهم وأفكارهم التي يُخيَّل لنا أحياناً أنها أفكار ضحلة أو نيّئة أو منبتة عن الأصول والتراث، لكننا بقليل من المراجعة والتفكر والإنصاف نستشعر أن المشكلة إلى حد كبير فينا وليست فيهم، التجربة برهنت أن الثورة قوامها شباب نضِر، متحمس ، متحرر تماماً من الانتماءات الحزبية والعقائدية.
الأيام الماضية، وقفتُ على تصريحيْن للقيادي الشاب محمد ناجي الأصم، لمستُ فيهما قدراً عالياً من الوعي والعمق والانتباه ، قال في أولهما : “لن نقبل بالمحاصصة في حكومة الثورة”، وقال في الثاني : “النضال المسلح لا يستوجب المشاركة في السلطة”، وأظن أن دلالة التصريحيْن واضحة وتؤكد على مدى الوعي بالدهاليز و”الحُفر” التي عادةً ما تُصنع بفهم استيعاب الجميع وتحقيق السلام الشامل لكنها تظل في تشعب وتوسع حتى ينتهي إلى داخلها الجميع !
مطالبة الحركات المسلحة بتأخير تشكيل الحكومة الانتقالية لمدة ستة أشهر، مطلب غريب، مُحبِط ، قصير النظر ومرفوض بالتأكيد! وهو غير بعيد عن تفكير “المحاصصة” الذي عناه الأصم ! مطالبة الجبهة الثورية بثلاثة مقاعد في مجلس السيادة مع زيادة أعضاء المجلس إلى “7+7+1” هو الآخر مطلب “محاصصي بحت” خاصة وأن “الثورية” جزء من “قحت” وطبيعي ومنطقي أن تنال نصيبها ضمن “كوتة قحت”! تجربة المحاصصة تجربة مريرة وشرورها لا تنفد!
زُهد بعض القيادات الشبابية الواعية وتراجعها طوعاً وتواضعاً عن الواجهة، سيفسح المجال لعواجيز وحزبيين للتسلل تحت لافتة الخبرة والكفاءة و”التوكنوقراطية” ! وبالتالي نجد أنفسنا في ذات المحطة التقليدية “بصنفورها الواقع” على الدوام ! مهم جداً ومطلوب أن يتصدر المرحلة القادمة بكل عقباتها وتعقيداتها وتحدياتها، ذات الشباب الذين رأى الناس وجوههم في التجمعات والمسيرات والمعتقلات والمخاطبات والمفاوضات وغيرها، وألا يتم مطلقاً تجاوز تلك القيادات الشبابية التي عركت وعاشت التجربة، ليس من باب المكافأة لهم لكن من باب التمكين والتقديم لقادة الثورة الحقيقيين، إذ أن المكتوي بالنار سيكون – في الغالب -أحرص على النور .
كل الأمل أن ينتهي مارثون التفاوض بكل مراحله وتفاصيله إلى خير، وألا نسمع عن مطالبة جديدة بزيادة عضوية المجلس السيادي إلى (8+8) أو (9+9) ! وأن ننفذ عاجلاً غير آجلٍ إلى حكومة انتقالية تعتمد على الكفاءات والخبرات بحيث تشرع فوراً في معالجات جادة وملموسة لقضايا الاقتصاد والخدمات ومعاش الناس وما يعيشونه من جشع غلاء وفوضى في التسعير باسم التحرير، ومن ثم ترتيب الشأن الدستوري والسياسي وترسيخ التعافي الوطني .
محمد حامد تبيدي
الصيحة