انتقلت الخلافات حول الاتفاق السياسي وما يُسمى بالإعلان الدستوري من تبايُنٍ بين المجلس العسكري ومجموعة قوى الحرية والتغيير إلى خلاف داخلي بين مُكوّنات الحرية والتغيير نفسها، وحتى تحسِم هذه المجموعة خلافاتها ونقاشاتها الحامية حول تفسير وتأويل النصوص وبنود الاتفاق ومحتوى الإعلان والاتفاق، تكون البلاد قد فقدَتْ وقتاً غالياً تجمّدت فيه الأعمالُ والأشغالُ وتعطّلت فيه مصالِح البلاد والعباد بسبب مطامِع الساسة ومطامِح أهل الاستوزار الجدُد، فمن المُرجّح ألا تتّفِق مُكوّنات الحرية والتغيير على رأي واحدٍ مُتّفَقٍ عليه، وهناك حوار بينها والحركات في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، وتَجري هنا في الخرطوم مُحاولات حثيثة من سفارات أجنبية ومنظمات وشخصيات سياسية لمنع تشظّي الحرية والتغيير وانفراط عقدها وتناثُر حبّاته المُتناقِضة التي اتفقت على المعارضة والاحتجاج والتظاهُر ولم تتّفِق على كيفية الحُكم ومَن يحكِم من بين صفوفها؟
الشيء الوحيد الذي يستطيع كل ذي بصيرةٍ إدراكَه وفهمَه، أن جُزءاً من الحرية والتغيير يسعى لإقصاء أجزاء أخرى وإبعادها، كما يعمل الحزب الشيوعي من وراء حلفائه، ومن خلف المجلس العسكري على مُخَطَّطِه الذي يصل مداه إلى العمل العسكري المباشر كما تقول مصادر الحزب، وبما أن التصعيد والتعقيد الذي يتم هو فقط لتوفير المناخ الملائم لإجهاض أي نهايات توافُقية للأزمة الحالية بين طرفي الفترة الانتقالية وتنفيذ الجزء الأكثر تهوُّراً الذي يُدبِّره الحزب الشيوعي، وقد استيأس من مُمارسة اللعب السياسي المكشوف ورهِب سوقه إلى ساحة التنافُس الحُر في نهاية الفترة الانتقالية، وإذ يُغامِر الشيوعيون هذه المرة، فإن مغامرتهم التي تكشَّفت ملامحُها بسبب الاختراقات الداخلية لحزبهم وضعف الولاء التنظيمي، ستكون مغامرة ذات خسائر باهظة وثمنٍ عالي القيمة لا يقدَر عليه الحزب الذي طالما عانى من هذا النوع من التفكير الطائش ذي الأكلاف الكبيرة.
هل يا ترى هناك طريق ثالث سيلجأ إليه الجميع سواء في المجلس العسكري الانتقالي والقوى السياسية جمعاء والوسطاء والأطراف الإقليمية والدولية التي راهنَت على شراكة بين العسكريين والحُرية والتغيير..؟
بالطبع هناك طريق ثالث، هو أن يدعو المجلس العسكري جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية، وكل مُمثّلي المجتمع السياسي، إلى اجتماع عام للتداوُل حول كيفية إدارة الفترة الانتقالية، وأن يطرح عليهم مُبادرته بتكوين حكومة الكفاءات الوطنية المستقلة، ويُقدِّم ميثاقاً سياسياً تتراضَى عليه كل الأحزاب والتنظيمات لتنظيم العمل خلال فترة انتقالية قصيرة تُقام بعدها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ليتسلّم من يفوز فيها السلطة كاملة بتفويضٍ انتخابي من الشعب، وتنتهي الملهاةُ والمأساةُ الراهِنة.
نقول ذلك، ونحن نُتابع هذا المسلسل الطويل من المُماطَلات والمُماحَكات الحزبية وألاعيب أهل السياسة قبل الاتفاق وتوقيعه، فكيف به إذا وُقِّع كيفما اتفق وصار نافذاً..؟ فقد ترسّخ عند الرأي العام الداخلي والخارجي أنه حتى إذا تمّ في نهاية الأمر اتفاق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، فإن هذا الاتفاق لن يصمُد طويلاً، وستكون الفترة الانتقالية جمراً تتلظَّى فيه الشراكةُ بين الطرفين، ستكثُر الخلافات العبثية، وسنجد البلاد مُنغمِسة حتى أذُنيها في ما لا طائل تحته بسبب التعارُض في الآراء والتبايُن في السياسات والتجاذُب في ممارسة السلطات والصلاحيات والتنافُر بين مكونات التركيبة الحاكمة، وهي غير مُنطلِقة من أرضيةٍ واحدةٍ وتفاهمٍ مشتركٍ ورؤيةٍ موحدة لقضايا البلاد، وستكون الفترة الانتقالية بطولها (3 سنوات وبضعة أشهُر) مليئة بالشِّقاقِ الذي سيقصِم ظهر البلاد ويوردها موردَ الهلاك..
بلا تشاؤم أو إثارة ما يُحبِط، ليس هناك أمل في شراكة مُنتجة بين الطرفين، لقد بذل المجلس العسكري ما في وسعه لتجنّب وقوعِ الطلاق البائن بينونةً كُبرى مع قوى الحرية والتغيير، وقدّم الوسطاءُ برغم رأينا فيهم ما يستطيعون، لكن اتّضحَ أن المشكلة لم تكُن في العسكريين ولا الدعم السريع ولا يحزنون، المشكلة في العقول السياسية المُتجمّدة في المنطقة صفر، لا تستطيع من أجل الوطن التقدُّم والتحرُّك خطوات إيجابية نحو الأمام، ولا تُريد لبلادِنا أن تنامَ قريرة العين تحلُم بالاطمئنان والسلام والاستقرار والسكينة…
الصادق الرزيقي
الصيحة