تَرقُّبٌ وحذرٌ.. فرحٌ وسرورٌ.. تباشير وبشريات.. زغاريد وغناء.. دموع وضحكات.. عناق وأحضان.. هتافات حماسية.. ترتيب وتنظيم.. اصطفاف وانتظار.. كل ذلك استعداداً وتأهُّباً للقاء بعد غياب امتد لعامين ونصف، لأسرى حركة جيش تحرير السودان الذين وقعوا في الأسر خلال مُواجهات مع الحكومة السودانية في عهد النظام السابق في معارك بشرق وشمال دارفور.
الساعة تشير نحو الثانية ظهراً، كانت الأنظار تتّجه صوب المؤسسة الإصلاحية التي يقبع فيها “سجن الهدى” حسب ما يُطلق عليه غرب أم درمان، الطريق رغم تعبيده بطريقةٍ مُحكمةٍ لم تكن مَسافته قصيرة، أهم ما يُميِّز المكان الهُدوء وعدم الحركة رغم الانتشار الكثيف لمَسؤولي المُؤسّسة الضخمة، كَانَ التّرتيب لحظة وُصُول قادة المجلس العسكري الانتقالي يُشير إلى نَمط المُؤسّسة في الانضباط التام بحسب توجيهاتها المَعروفة، جانبٌ آخر كان لافتاً وواضحاً وُجُود أسر وأهالي وأقرباء النزلاء الذين بدوا قلقين رغم انتهاء إجراءات الإفراج عنهم، منهم الأب، الأم، أبناء العُمُومة كانت نظرات والدة أحد النزلاء يملؤها حُزنٌ عَميقٌ، وشوقٌ دفينٌ، رغم لحظات الفرح التي كَسَت الجميع وهم يحدقون النظر إلى وُجُوه المسؤولين في إشارة إلى طول الانتظار رغم مُرُور عامين ونصف من الزمان على اعتقالهم.
جديةٌ ورغبةٌ
تحقيقاً لمبدأ حُسن النِّيَّة تجاه الحَركَات المُسَلّحَة وُصُولاً الى السلام الشّامل في السُّودان، واستكمالاً لجُهُود التّواصُـــــل مع الحركات المسلحة التي بَدَأت في إنجمينا بين المجلس ورئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، كَانَت أُولَى الخَطَوات الّتي تُؤكِّد مَدَى جدية ورغبة المَجلس العسكري في تحقيق السلام والاستقرار بالسودان خلال المرحلة الحالية، العفو العام لأسرى جيش تحرير السودان، وتأكيداً لذلك، فإنّ قراراً رئاسياً أصْدره المَجلس العسكري الانتقالي، بالعَفو العَام عن أَسرى حَركة جيش تحرير السُّودان البالغ عددهم نحو 235 سجيناً.
وبحسب قرارٍ تلاه العقيد حقوقي محمد حسن المُستشار القانوني للمجلس العسكري، أصدر الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان القرار رقم (230) لسنة 2019 بالعفو العام عن أسرى حركة جيش تحرير السودان، وأوضح البرهان أنّ القرار يَأتِي استناداً على المَرسوميْن الدستورييْن بالرقميْن (3) و(8) الفقرة 2/ط لسنة 2019م، وعلى نص المادتين (37) الفقرة (1/و)، (711/1) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م.
وأضاف البيان أنّ القرار صدر “بعد التشاوُر مع وكيل وزارة العدل المُكَلّف، تحقيقاً لمبدأ حُسن النِّيَّة تجاه الحركات المُسلّحة وصولاً إلى السلام الشامل في السودان”، وأوضح البيان: “نص القرار على العفو عن المُتّهمين الأسرى من حركة جيش تحرير السودان البالغ عددهم 235 أسيراً وإطلاق سراحهم فوراً ما لم يكونوا مطلوبين في أي إجراءات قانونية أخرى، وذلك اعتباراً من تاريخ صدوره”.
عهدٌ جديدٌ
يوم الخميس كان حَدّاً فَاصلاً، ونهايةً بدأت منذ عامين ونصف لوجود ما يُقارب الـ(242) نزيلاً من حركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي، التي دخلت في مُواجهاتٍ مع حكومة البشير وانتهت بأسر مجموعة كبيرة منهم على أيدي النظام السابق، كَانَت الجُهُود التي حفلت بلقاءات قادة المَجلس العَسكري، وقادة حركة جيش تحرير السُّودان التي عُقدت أوائل الأسبوع الماضي بإنجمينا، بمثابة عهدٍ جديدٍ لهؤلاء النزلاء واستنشاقهم الحرية، فهم شركاء أصيلون في التّغيير الذي ينشده الجَميع، فقد تمّ إطلاق سراح مجموعة كبيرة لم يَنسَ جميع من استهل حديثه في المنصة بالتّرحُّم على النزلاء الشهداء الذين توفوا داخل (سِجنَ الهُدى) نتيجة الإصابة بداء السل، (7) شهداء لقوا حتفهم داخل السجن، فهم أصحاب قضية يؤمنون بها، ضَحُّوا من اجل الوطن بأرواحهم، وقَدّموا الغالي فِدَاءً لوطنهم، قادتهم أقدارهم وظُرُوفهم الى الاعتقال، ووفقاً لإفادات مُقرّبين من أسرى الحركة، فإنّ (25) نزيلاً خُضع لامتحانات الشهادة الثانوية وأحرز أحدهم نسبة (75%)، بجانب جُلُوس نحو (15) نزيلاً لامتحانات مرحلة الأساس مُحقِّقين نجاحاً باهراً.
ارتياحٌ وقبولٌ
قَــــــــرَار إطلاق سَـــــــراح المُعتقلين وأسرى الحرب من الحَركات المُسلّحة السُّودانية، وَجَدَ ارتياحاً وقُبُولاً في أوساط الأٌسر وقادة حركة جيش تحرير السُّودان، فكان الجميع يكسوه الأمل بمُواصلة ما انقطع من عملٍ نضالي لأبرز القادة الميدانيين التّابعين للحركة، في ظل الأوضاع والفُرصة المُتاحة لتحقيق السلام والاستقرار في السودان. نمر محمد عبد الرحمن أحد أبرز القادة الميدانين لحركة جيش تحرير السودان، تمّ أسره من قِبل الحكومة السابقة خلال مُواجهات ومعارك خاضتها الحركة بشرق وشمال دارفور، حينما أُتيحت له الفرصة ممثلاً عن بقية زملائه الأسرى بدا واضحاً أنه متمرسٌ على العمل السياسي، فالرجل خَبِرَ الدرب إبان فترة دراسته والتحاقه بكلية العلوم السياسية بجامعة الخرطوم، يُعد من المُناضلين السِّياسيين الذين التحقوا بالعمل السِّياسي منذ فترةٍ طويلةٍ، هكذا تحدث شقيقه، الذي قال إنّ إطلاق سراح الأسرى واجبٌ يقتضيه القانون، وأشار إلى أنّ والدته أصرّت على الحُضُور لاستقبال ابنها الذي غاب عنهم أكثر من عامين، وتوقّع أن ينخرط نمر بعد إطلاق سراحه في العمل السياسي، لأنّ القضية هي تحقيق السلام والاستقرار في السودان.
وتَحَدّث اللواء والقائد الميداني بحركة جيش تحرير السودان نمر محمد عبد الرحمن الذي حُظي باهتمامٍ بالغٍ من الجميع، حيث أُجريت معه العَديد من اللقاءات من قِبل القنوات العالمية، والتّصريحات الصحفية لعددٍ من الصحف عن ظُروف ومُلابسات الاعتقال، حيث قال إنّ ظُرُوف الاعتقال كَانت مَقبولة، والمُعاملة كانت كريمة، وأكد أنّ هناك مُشكلة في اكتظاظ السجون، فالسجن الذي كان فيه يضم (7500) نزيل، وأكد أنّ بعض المُعتقلين توفوا داخل السجون بسبب أمراض مُزمنة، وأضاف في تعليقه على المُفاوضات التي عقدت أمس أن المجلس العسكري جُزءٌ أساسي من التغيير، ويجب على جميع السودانيين الجلوس معاً والبحث عن حلٍّ للأزمة.
وأكد منشور لإعلام المجلس العسكري، أنّ القرار تَمّ بالتشاوُر مع وكيل وزارة العدل المُكَلّف، تحقيقاً لمبدأ حُسن النِّيَّة تجاه الحركات المُسلّحة وصولاً الى السلام الشامل في السودان .
وأكّد رئيس لجنة الأمن والدفاع بالمجلس العسكري في كلمته بهذه المُناسبة، أنّ قرار رئيس المجلس العسكري الانتقالي رقم “230” بالعفو العام الصادر أمس يأتي في إطار إبداء حُسن النوايا من أجل السلام، وجدّد الدعوة للحركات المُسلّحة بالحُضُور والمُشاركة في بناء وطن العدالة والديمقراطية، وأشار إلى أن إطلاق سراح هؤلاء السجناء يُعد مُناسبة طيِّبة لعودتهم الى مجالات العمل الوطني السَّلمي بعد نجاح الثورة.
وأكّد الفريق أول ركن جمال عمر، أنّ المجلس العسكري منذ انحيازه للثورة أعطى قضية تحقيق السلام أولوية باعتباره ركيزة للبناء والتّنمية، وشكّل لذلك لجنة رفيعة المُستوى برئاسة نائب رئيس المجلس العسكري، وعَبّرَ عن شكره وتقديره للحركات التي استجابت لعملية السلام وخَصّ منهم مني اركو مناوي وجبريل إبراهيم والتوم هجو، ودعا الجميع للعودة الى بناء الدولة عبر السلام العادل ونبذ الجهوية والعنصرية، وأكد أن المجلس العسكري سيظل وفياً وحارساً أميناً للثورة وتطلُّعات الجماهير للحُرية والعدالة.
من جانبه، قال التوم هجو القيادي بالجبهة الثورية، إنّ ما نشهده اليوم مثالٌ للتّعاوُن مع المجلس العسكري وهدية للشعب السوداني والقيادات السِّياسيَّة ومُؤشِّرٌ إيجابيٌّ بأنه بإمكاننا تحقيق تطلُّعات الشعب دون تصعيدٍ وإراقة دماء.
وبحسب بيانٍ لرئيس حركة جيش تحرير السودان مني اركو مناوي، فقد أصدر بياناً خاصاً بالعفو العام عن أسرى الحركة، وقال: نعم خروجكم من هذه الجحور ليست منحة، إنه حَقٌ قد حُجب عليكم من قِبل الجور والطغيان، والذي ثرتم لإزالتها، بالرغم من هذا يجب أن نعطي لكل واحد حقه بقدر الذي أسهم في إطلاق سراحكم.
وامتدح دور وجهود المجلس العسكري الذي تقدّم بهذه الخطوة رغم وجوبها وتأخيرها، إلا أنّ مُبرّرات عدم الشكر تنهزم هنا طالما تقدم بهذه الخطوة وإنها بداية للطريق الطويل وهو طريق سلام دائم، الذي يزيل جميع عقبات التاريخ المتراكم بإفساح المجال لضوء الحرية حتى يسطع للجميع في بلادنا الذي لم تذق طعم الحرية في ظل الحكم الوطني منذ 1956م.
تقرير : أم سلمة العشا
الخرطوم (صحيفة الصيحة)