لم يكن يوم الاثنين – التاسع والعشرين من رمضان – «اثنين أسود» فقط كما وصفه العامة، هو كذلك للذين لم يُحالفهم الحظ بالتواجد تلك الليلة فيّ مُحيط القيادة العامة، أو فلنقل القدر! فالذين ارتقت أرواحهم شهداء نالوا الخُلود فيّ تاريخ هذا البلد ما بقيت، ومن نجا يحمل في جوفه الآن قصصا ومشاهد عظيمة لن تمحوها السنوات القادمة.
أبقوا عشرة على الوطن
يلهث وكأن قطيع من الذِئاب يركضُ خلفه، صوتِه المُتقطع، دقات قلبِه المُتسارعة، وذاك الفزع بعينيه، رسم بوضوحٍ تام معالم المأساة بالخارج . خارج تلك « الخيمة » المُحتمي بها، صامداً، رغم مُحاولته مواراة ما تركته « سياطهم » من آثار بجسده المُتهالك أصلاً من فرط الصدمة . (نحن انضربنا ضَرب)، يقولها ممسكاً بهاتفه ويده تكاد أنّ تخذله إلا قليلاً، وأصوات الرصاص تصرخ معلنة الموت، كُل شيء حوله كان يُوشي به، لكنه لم يستسلم .
كان يعلم أنّ » الخيمة » التيّ يحتمي بها، ليست سوا « راكوبة خريف »، ستسقط وتنهار لو بعد حين، وإنّه سوف يخرج ليواجه مصيره لا محالة . فقرر أنّ يُخلد اسمه، تاركاً خلفه « وصية » ثقيلة، سيما على منّ يحاولون انتزاع أحلام دفع رِفاقه ثمناً باهظاً لتزدهر وتخضر، عُنوة. شاب فيّ ربيع العمر بل أوله، أبت صروف دهره مُعاندةً الابتسام له، لم تطأ قدمه مُنتصف العشرينات، ولم يسمح له قدره اختبار « دهاء » الثلاثين .
شاب، بيد أنّ قلبه لم يكن به مُتسع، لا « حبيبة ،» ولا قاعات الجامعة، أو حتى ميادين « الدافوري » عصراً، لم يكن والرصاصة تتربص به فيّ الخارج لتشق صدره، يشغل باله عدا « الوطن »، فقالها مُوصياً شعب بأكمله ( أبقوا عشرة على الوطن ).
« بكلتوا فِينا ياجماعة »
لحظة اقتحام القوات الأمنية مقر الاعتصام، كان يقفُ على مقربة من خِيم نصبها هو بنفسه وبمُساعدة رِفاق جمعتهم قضية واحدة، دافعوا عنها على مدى أشهر عديدة ببسالة أدهشتهم أولاً فهم كما قال أحدهم : لم نكن نعلم بأننا أقوياء لهذا الحد . لم تمضي دقائق معدودة، ليسقط شهيد على مقربة مِنه، فصاح بصوت هزه هول ما رأى ( فيّ واحد كتلوووووا )، ( فيّ واحد كتلوووا ) . لم يكن يعلم وهو يُحاول زحزحة رُفاة منّ سقط قتيلاً، وتنبيه بقية الثُوار، أنّ صوته المبحوح وجعاً ذاك، اخترق أُذن كُل البيوت، أيقظ شعب بأكمله، شعب نام يحلم بصباح العيد، واستيقظ على « مذبحة . » كُل بيوت « الخرطوم » فزعت لفزعه، فاقت وبقايا نُعاس يحوم حول الأعين، بددته دموع زرفت عجزاً عن تلبية نداء استغاثته ذاك . تقول سيدة طاعنة فيّ السن، إنها لن تنسى صوته هو يصيح ألماً عندما اشتد عليه الرصاص ما ظلت حية ( ياجماعة بكتلوووا فِينا، بكتلووووا فينا ).
سلمية سلمية
كان يقف فيّ المنتصف تماماً، رفض الخنوع، أو الانحناء للريح كي تمر، حاول صديقه أنّ يُثنيه، أنّ يمنعه الانتحار – فمحاولة مُحاورة من يُؤمن بالبندقية فقط « انتحار »، لكنه لم يستجب،. وقف صاحب « الرداء الأبيض » كما أطلق عليه أصدقائه _ أمام قوة أمنية مدججة بالسلاح، مُتمسكاً بموقفه، عله حدث نفسه قائلاً : ( سلمية كافية ليعودوا أدراجهم )، فقرر المُقاومة، هذا المرة حاول صديقه منعه بالقوة، فشد يده بُغية إبعاده قليلاً عن مرمى أهدافهم، لكن اصراره كان أقوى . وبكل ما أمتلك صوته من قوة صااح في وجه البندقية ( سلميييية، سلمي___)، وقبل أن يُكملها شقت رصاصة صدره، وسقط .
اما النصر أو الشهادة
لم يكتفوا بما أزهقوا من أرواح، أرض ملطخة بالدماء، خِيام تحترق، وجُثث مُتناثرة فيّ الأنحاء، دموع، خوف، غُبن، كُره، ومشاعر مُلتهبة، قلوب مُشتعلة تفيض نيرانها لتُضاهي اللهيب المُتطاير منّ نيران أشعلوها عمداً، بل وتتفوق عليه، فقرروا اغتيال « الكرامة » هذه المرة . جمعوا منّ فشلوا فيّ حرقهم احياء بكومة واحدة، كالأسرى تماماً، التفوا حولهم، كحية إنقضت على فريستها، طوقوهم من كافة الجوانب، واستعانوا ب(أمواس ) لحلاقة رؤوس من استفزوا قادتهم ! .
هُناك فيّ المُنتصف، يجلسُ شاب أسمر، يبدو عليه الإعياء، – ولا تسالوا عن السبب !، ثيابه المغبرة تُجيب، بينما انشغلوا هُم بتنفيذ ما اؤمروا به، واخلصوا فيّ تنفيذه ، انشغل هو، بإرسال رسالته للعالم اجمع، اراد بث الأمل فيّ نُفوس رِفاقه المُنكسرة اولاً، ومن ثمة لنفسه، وإن تبقى شيء فليذهب إليهم، ويُخبرهم بأن النصر قادم لا محالة، هيّ سُنة حياة، وإن كُنتم الأقوى، فلوح بيده وسط الحصار ( علامة النصر أو الشهادة ) .
مواقف مشرفة
مُذ بدأ اعتصام القيادة العامة، شكلت « الكاميرا » حضوراً طاغياً، صور اُلتقطت ستظل راسخة فيّ الأذهان، مواقف ومشاهد وثقت للتاريخ، وسيحتفظ بها الوجدان السوداني لعقود .إلا أنّ ما حدث في « التاسع والعشرين من رمضان » مُختلف بعض الشيء . تروي طبيبة – فضلت حجب اسمها – تفاصيل ذاك اليوم ل(الجريدة) قائلة: إنها كانت بمعية شقيقها الأكبر، والذي يعمل طبيباً بدوره، عندما اُقتحمت القيادة، عملت بمعية الثُوارعلى اسعاف المُصابين ذوي الحالات الحرجة، نظراً لعدم توفر المستلزمات الطبية الكافية، اما الحالات التي يمكنها الانتظار ولو لساعة واحدة، كُنا نقوم بتأجيلها _ مُضيفة بأنهم كانوا يؤثرون على بعضهم.
العلاج، بل أن هُناك من رفض « البندول » كمسكن للألم، خوفاً من أن يأتي من هو أحوج منه . مُشيرة إلى انها خرجت بإعجوبة وبمساعدة شقيقها واصدقائه من محيط القيادة حيث توجهوا لبري، بيد أنّهم رفضوا بعد أن تركوها هُناك البقاء، وتوجهوا ثانية لمقر الاعتصام ضاربين بمحاولتها اثنائهم عرض الحائط . مُؤكدة بأن عودتهم كانت سبباً فيّ اصابة شقيقها بعيار ناري اسفل القدم، بينما استشهد أحد اصدقائه هُناك، إلا أنّه اكد لها بأنه لو لم يعد لما استطاع مُواجهة نفسه مرة أُخرى، لأن القسم الطبي يُلزمه بذلك .
الجريدة: سلمي عبدالعزيز
صحيفة الجريدة