محمد عيسى .. حكاية شهيد (ترس) .. والدة الشهيد : عملتُ ( بائعة شاي ) من أجل تربيته ، فقتلوه !

محمد عيسى … حكاية شهيد (ترس) للحزن ضحكة
والدة الشهيد : عملتُ ( بائعة شاي ) من أجل تربيته ، فقتلوه !

شقيقه سليمان : محمد شُجاع وقلبو حار رغم صغر سنه
أسرة الشهيد تُباشر في الإجراءات القانونية وتُطالب بالقصاص

كُل شئ في منزله يفتقده ، شجرة النيم التي كان يُبدد تحت ظلها سُويعات النهار ، أصدقائه الذين لم يستوعبوا بعد فرضية رحيله ، والده ، جِدته الطاعنة في السن ، وشقيقه سليمان الذي قاسمه الطريق نحو القيادة ، وأمه (الحجة زينب ).

المنزل يُشبه تماماً في البساطة والترتيب وبشاشة ساكنيه، تحكي شقيقته الكُبرى عنه بحبه ، محمد أنيق ، يُحب النظافة ، يُبدل ثيابه في اليوم الواحدة ثلاثة مرات ، يختارها بعناية ، ويتفاخر بثمنها الباهظ ،. قاطعتها صغيرتها قائلة :” وبجيب ليّ حلاوة “.

*حبيب الكُل
الجُلوس معها لم يكن هيِن ، امرأة بكامل عُنفوان النِساء هُنا ، وجدتها قوية بالرغم من أن الضربة كانت مُوجعة ، صابرة وفي قلبها ألف دمعة وغُبن . قالت لي إنها لن تبكي ( الدودو ) صغيرها الذي مات رجلاً ، لِكنها تخشى ضياع حقه ، وبعثرة دمه بين أرجل وجشع ( الكراسي ) .
تُصر والدة الشهيد محمد عيسى السيدة زينب أبو كلام في حديثها مع ( الجريدة ) : على إختلاف إبنها عن بقية أشقائه كثيراً ( محمد ولدٍي مافيه كلام ) ، ملك قُلوب الجميع ، والده ، جِيرانه ، أصدقائه ، كُل من تعرف عليه كِسب محبته واستحوذ على قلبه.

*القيادة نفر
مُذ بداية الحِراك الثوري في السُودان _ ديسمبر المنصرم _ لم يمكث محمد في بيته يوم واحد ، بدأها بسلسلة من الكر والفر داخل الحي أبان مُظاهرات الأحياء وختمها بذهابه اليومي إلى القيادة العامة ، يخرج ظهراً ويأتي مُنتصف الليل . تقول زينب منعته مِراراً ، وبشتى الطُرق ، أخبرته بخوفي المُتزايد عليه ، فيأتي رده وهو على عتبة الباب ( يُمة أعفي ليّ ) .

* قالوا سلمية ، فلماذا قُتل إبني ؟!
تسأل ، ولا جواب ! محمد بعد أن تكرر ذهابه إلى الاعتصام ، قلْ عتابي له ، لأنه كان يأتي مُنتشياً ، يروي لي بسعادة ماذا فعلوا ، وروحه المرحة ، ضحكته المحببة تسبقان قصصه ، كان كل شيء يدل علي أن المكان أمن فاطمئن قلبي، ولكنه ( مشى ، وماجانّي ) قتلوه وهو يقول سلمية ، يرددها في البيت وفي الشارع .

*المائدة الأخيرة
خرج محمد من منزله في تمام الساعة الواحدة ظُهراً _ نهار الثامن من رمضان _ ، في ذاك اليوم تحديداً طلبت منه أن لا يذهب ، هددته ، واشتددت لهجتي معه على غير العادة ، قلتا له إنت صغير على الاعتصام ، فكان رده بأنه سوف يأتي هذه المرة مبكراً ، وبالفعل وفاء بوعده ، وجاء قبل الإفطار بقليل ، كأنه أراد أن يفطر معنا للمرة الأخيرة . و خرج مرة أخرى ، انسحب بهدوء ، حتى أننا لم ننتبه لغيابه .

*ياأصلي يادسيس
تعمل والدة الشهيد محمد عيسى ( بائعة شاي ) مُنذ سنوات ، خرجت باحثة عن لُقمة عيش حَلال تسد بها رمق الحوجة ، بعد أنّ تمكن ( السُكري والضغط ) بجسد زوجها فأثقل حركته ، وقلت مُروته ، لسنوات عملت جاهدة ( لا كلت ولا ملت ) يزيدها يقيناً نجاح أبنائها واحدا تلو الأخر .
سألتها عن أبنائها ، فقالت كُلهم حلوين ، ولكن لمحمد طعم خاص ، ( كان عندما يأتي من القيادة ، يغشاني في طريقه ويجيبني البيت ، يمحي بضحكاته وهظاره ما عانيته طوال النهار من مشقة ورهق ) .

في ذاك اليوم انتظرته ليأتي كعادته ، يطفئ ليّ نار ( الكانون ) ، يلم ليّ العفش ، ويحمل الثقيل على ظهره ، ظللت أترقب قُدومه لقُرابة الساعة ، وعندما لم يأتي ، مشيت البيت وحدي ، ودِي كانت أول مرة تحصل ، محمد ماقاعد يخليني براي ..
كُنت أبحث عنه بنظري في شوارع العودة، وبداخلي صوت يردد ( محمد ولدي مشى وين ) ؟! ، شعرت بأن مكروه أصابه ، لأني كُنت أعلم بأنه لن يغيب بدون سبب ، ولد مسؤول ، وبخاف عليّ شديد .

شعرت بقبضة ، وكأن شيئاً حاداً ضرب قلبي ، وبدأت فكرة الموت تجول بخاطري ، وكأن هُناك من أحضر جثته وألقى بها أمام الباب ، نهضت من السرير فزعة ، كانت الساعة وقتها تقترب من الثانية صباحاً ، نحو الباب ، ولم أجد أحد .
لم تغمض لي عين ، كُنت أترقب قُدومه ، وأُجاهد لطرد شبح أفكار أحكمت حبالها على عقلي ، وفشلت ، قلب الأم سيطر على كُل شيء ، وقتها كانت المأذنة بالجامع القريب منا تُكبر لصلاة الصبح ،.

* أخبار سيئة
أشرقت الشمس ، أصوات طرق على الباب ، كانت لابن الجيران ، سألته قبل أن ينطق بكلمة ( أها ، لقيتوه ميت وين )؟! ، محمد صغير ، لم ينم ليلة واحدة خارج أسوار هذا المنزل ،( القتلوا منو )؟! ، .. والده صاح فيني مُطالباً بالذهاب إلى هُناك _ أيّ القيادة _ للبحث عنه ، دافعت عنه ، قلت إنه لم يذهب ، وإني رأيته وبمعية أصدقائه مُتجهين ناحية السُوق ، وقبل أن أُكمل ، أُخبرنا بأنه يرقد الأن بمستشفى المعلم ، ولكن حالته مُستقرة ، وإصابته خفيفة ، وسيكون بخير .

* مستشفى المعلم
وجدته طريح الفراش ، فور دُخولي قال لي يُمة تعالي أحضنيني ، مد زراعيه بصعوبة نحوي ، فاقتربت منه ، شعرت بأن قلبي يخرج من مكانه ، تملكتني نوبة عارمة من الغضب ، صحت فيه معاتبة ( الجَابك هِنا شنووو ، الوداك القيادة شنووو ، إنت وَلد صغير ، مالك والمتاريس ، مالك والموت ) .
رفع إصبعه ملوحاً ، وقال لي أنا تمام ، فثبت قلبي قليلاً ، كان العطش يشق حلقه ، واستبد به الألم ، طلب رشفة ماء ، لكن الأطباء رفضوا ، فمسحت حلقه بطرف ثوبي المبلل ، لم يستطيع تحمل ذاك الألم كله ، طلب مني أن اذهب للدكتور وأحضر له مسكنات ، كان يتقلب ويئن ، ركضت نحو الدكاترة ، ليتم ادخاله للعملية ، استغرقت خمسة ساعات ، وخرج ، لكنه لم يكن ابنى ، علمت أنه بقا حق الله ، فطلبت من الدكاترة تركه ، لترتقي روحه إلى السماء بعد دقائق معدودة .

*موكب الحاج فان
اجتماعي ، مرح ، لا تفارق وجهه الابتسامة ، بهذه الكلمات وصف سليمان عيسي ، طالب الهندسة الميكانيكية بجامعة الخرطوم ، شقيقه الأصغر . مُضيفاً هو الوحيد بيننا الذي تمكن من الذهاب إلى القيادة العامة يوم (٦\ أبريل ) – وظل يفتخر بها أمامنا كثيراً – .
محمد لايُشبه إلا نفسه ، لديه أصدقاء كُثر ، على نقيضي تماما ، شُجاع ، وقلبه حار رغم سنه الصغير ، اعتاد على تقدم الصفوف ، في احايين كثيرة أستخدم سُلطتي كأخ يكبره في السن وأمنعه من الذهاب ، ولكني أتفاجئ به ( صابيها ) في القيادة .

لم يكن يتوقع سليمان وهو يتقدم موكب الحاج يوسف المُتوجه إلي القيادة بأن ثلاث طلقات اخترقت جسد شقيقه الصغير هناك، يقول فور وصول الموكب تم إبلاغنا بماحدث ، ذهبت بمعية الشباب لشارع النيل ، أثار الدماء كانت واضحة ، ولكنه لم يختر في بالي مطلقا بأنها دماء محمد ، لأنه في هذا اليوم تحديدا لم يخبرني برغبته في الذهاب ، كما أنه لم يأتي معنا في الموكب .
يقول سليمان عُدت للاعتصام وفعالياته ، وتوجهت للمنزل بعد منتصف الليل ، سُؤلت عنه ، فأخبرتهم بأنه لم يأتي معنا ، وأن الوضع أمن هُناك ، لكن أمي لم تقتنع . وتوالت الأحداث في الصباح . وصدق حدسها .

لايُريد ( سليمان) ، وأصدقاء محمد سوا حكومة مدنية تضمن لهم عدم حدوث مثل هذه المجزرة ثانية ، وتحقق لهم مطالبهم في محاكمة كل من تورط في قتل وإرقاء الدماء .
مُؤكداً مُباشرة الأسرة في تحريك الإجراءات القانونية لمحاسبة قتلة محمد ، مشيراً إلى أنه سيظل بالقيادة العامة حتى تحقيق ماخرجوا لأجله ، فإما أن ينصلح حال هذه البلد ويعيش مواطنيها حياة كريمة ، أو نرتقي شهداء .

سلمى عبدالعزيز
صحيفة الجريدة

Exit mobile version