في تلك الأمسية انتقلت أمي آمنة بنت الشيخ العالم الفقيه حامد من ظهر الأرض إلى باطنها، وعرفت معنى اليتم، وأدركت كم ظللت طفلا متعلقا بأمي حتى بعد أن صرت أبا، كنت أقول لنفسي دائما إن الحبل السري الذي ربطني بأمي لتسعة أشهر لم ينقطع قط، بل ظل وازداد متانة عبر السنين لأنها لم تكف قط عن تغذيتي بأشياء أكثر قيمة من البروتين والكالسيوم.. وبالتالي فهي لم تفطمني ولا أنا أحسست يوما ما بأنني استطيع ان استغني عن “صدرها”.. وبرحيلها عن الدنيا ضاعت مني “طفولتي”، وأحسست فجأة بأنني هرمت وشخت.. لم تزد المسافات الجغرافية التي ظلت تفصلنا على مدى سنوات إقامتي في منطقة الخليج ذلك الحبل السري إلا متانة وقوة.. كنت حاضرا في صلواتها ودعواتها وكان يبهجني ان أسمع منها المرة تلو الأخرى أنها راضية عني و”عافية عليك”.
ودعتها قبل 40 يوما من وفاتها، ثم أصيبت بعارض صحي ولزمت سرير المستشفى لثلاثة أيام، وعندما منحها الأطباء صك البراءة من تلك العلة وعادت الى البيت هاتفتها وما أن أدركت أنني من يكلمها حتى أطلقت زغرودة ما زال صداها يتردد في أذني.. وكانت تلك الزغرودة آخر ما سمعته منها.. هذا كرم من الله.. كم من الناس ودعتهم أمهاتهم بالزغاريد؟ عزائي أنني لم أغضبها قط بعد ان تجاوزت شقاوة الطفولة والصبا، وعزائي ان الله أطال عمرها حتى رعت أحفادها ورأتهم يقفون على أقدامهم ويشقون طريقهم في الحياة وأسلمت الروح وهي تتوسد أيديهم.. رجعت أمي آمنة الى ربها آمنة مطمئنة لتدخل في عباده وجنته بإذنه.
كانت آمنة أمي وأبي لنحو عشر سنوات ظل خلالها والدي رحمه الله يضرب في الأرض طلبا للرزق.. زارتني لآخر مرة في العاصمة القطرية الدوحة وأنا اب لثلاثة من العيال ورأيتها تتسلل في ساعات الفجر الأولى إلى الغرفة المخصصة لي ولزوجتي، فأخبرها بأنني “قفشتها و.. يا حاجة عيب”.. ولكنها لم توقف التسلل بزعم أنني لا أغطي جسمي جيدا أثناء النوم لأحميه من لفحات البرد الاصطناعي الصادرة عن مكيف الهواء.. كان ذلك يسعدني ويعمق في دواخلي السعادة بأن لي أماً لا تزال تدلل في الطفل الرافض للفطام، ولا يعترف بأن قابلة قطعت الحبل السري الذي يربطه بأمه
ارفعوا أيديكم بالدعاء – بارك الله فيكم – كي يدخل المليك العظيم آمنة بنت الشيخ حامد في جنات النعيم، وكي يمنحني وإخوتي القدرة على اتخاذها قدوة والوفاء لذكراها بمنح الآخرين الحب والحنان بلا من.. والقدرة على الصمود والتماسك.
زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com