على مر ثلاثين عاماً، ظلت بعض الأحزاب السياسية تساند الإنقاذ منهجًا وحكماً، بل وكانت جزءاً من الأزمة في كثير من المواقف لم تظهر معارضتها واضحة وتتوارى خجلاً من مشاركتها في الإنقاذ، هي ذات الأحزاب والشخصيات التي تخطتها الثورة اليوم وتجاوزها إعلان الحرية والتغيير وتجمع المهنيين، فضلاً عن عدم إظهار مواقفها إبان الثورة التي انطلقت منذ العام 2013م، حيث شاركوا وتوظفوا وأخذوا ونالوا وأكلوا وشربوا وفعلوا ما لم تفعله الإنقاذ نفسها، وعندما (سقطت) الإنقاذ خلعوا عباءاتهم القديمة وارتدوا أخرى (صبيانية) يريدون أن يكونوا جزءًا من الشباب، فمتى يفطم هؤلاء عن الرضاعة بعد أن كبرت سنهم؟ الثوار يرفضون مشاركتهم في الحكومة المدنية المقبلة، منادين لهم أن اللقاء بعد المرحلة الانتقالية ضمن صناديق الاقتراع، فهل إلى مرد من سبيل؟
منازعات حزبية
لم تكترث الأحزب السياسية السودانية القديمة بنشأتها وكوادرها بل ومفاهيمها بأن المرحلة الحالية لا تستوعب تلك الأفكار القديمة التي لم تُفلح في إخراج السودان من بؤرة التردي والتدهور الاقتصادي والسياسي زحفاً للتدهور الاجتماعي حتى حان وقت التغيير والثورة التي جاءت في حين غفلة من أولئك الانتهازيين، لم تدرك الشخصيات النفعية وسماسرة السلطة والسياسة أن المرحلة الحالية لن تستوعبهم في وقتها الحالي أو (الحكومة الانتقالية) سيما تلك الأحزاب التي كانت تشارك المؤتمر الوطني أمس، ولم تتخل عنه إلا بعد انتزاعه من وحل الحكم والسلطة، لم تعط تلك الأحزاب والشخصيات المعروفة وقتًا لاستجماع أفكارها وتفاصيها للدخول في المرحلة الجديدة بل أعطت نفسها الأهلية والشرعية حينما حاولت مشاركة إعلان الحرية والتغيير الفترة الانتقالية ناسية أنها كانت جزءاً من أزمة الأمس، وتريد أن تكون ضمن حلول اليوم متناسية أن تيار الشباب الذي ثار ضد الحكومة المخلوعة رافضاً ذات النهج والممارسة في البحث عن السلطة دون غيرها، فكان الاستفتاء لتلك الأحزاب عن قبولها أو رفضها هو ساحة الاعتصام التي لم يفلح أولئك المنتهزون أن تطأها أقدامهم مخاطبين أو طارحين مشاريعهم السياسية البالية وقديمة التكوين والفكرة، بل أصبحوا يلهثون وراء اجتماعات المجلس العسكري متعللين بأنهم لا يريدون إلا إصلاحاً فكان الخلاف حولهم.
رفض شعبي
عضو المجلس المركزي للمؤتمر السوداني مالك أبو الحسن قال (للصيحة) إن الثقافة السياسية السودانية متأخرة جدًا، لأننا لم نشهد على مر التاريخ السياسي أن هنالك سياسياً توقف عن العمل السياسي إلا نادراً جداً إلا بالوفاة، ولم نتأثر بالديمقراطيات العريقة بمغادرة السياسي لمنصبه إما لانقضاء حقبته أو رفض برنامجه من الشعب، كما يحدث في أمريكا، مشيراً إلى أن السياسي في السودان دائماً صالح لكل الأوقات فقط بتغيير أطروحته السياسية، والدليل ما يحدث حالياً من قبل بعض القيادات الحزبية التي تعتقد أنه مجرد تغيير الفكرة أو المادة السياسية، فإنه يكسب عمراً جديدًا، مشددًا على أنها فكرة ليست صحيحة، سيما وأن البرنامج السياسي رهين بقبول شعبي، وهو ما عكس حالة رفض لكل من شارك في حكومة الإنقاذ، عليه من الطبيعي أن يتوقف هؤلاء ويأخذوا رجعة للوراء لمصلحة خلق ثقافة سياسية جديدة في السودان وإعطاء فرصة للقيادات السياسية التي تفرزها ثورة الشباب، لافتاً للخروج الكبير والتدافع الذي حدث لثورة الشباب، وقال: إذا أراد أي شخص معرفة موقعه من الثورة الحقيقية عليه مخاطبة هذه الحشود من داخل ميدان الاعتصام، منبهاً أن أي قائد أو سياسي لا يستطيع شق ميدان الاعتصام ومخاطبة الشباب والثورة يعتبر مرفوضاً شعبياً.
وأكد مالك أن هنالك بعض السياسيين لما يمتلكونه من وظائف أخرى لا يستطيعون الانفصال عن العمل السياسي ليس لتحقيق مكاسب سياسية، وإنما حالة مسيطرة للشخص للتقرب من السلطة والزخم السياسي.
كاشفا أن المعارضة أيضاً تعاني نفس المرض السياسي من عدم الخروج بأحزابها أو تطويرها، وفي ذات الأثناء يسيطرون على قيادة الأحزاب فترة طويلة وعدم منح فرصة للأجيال الشابة داخل أحزابهم من أجل فكرة جديدة، وهي حالة لا تنتهي إلا بخطوة للوراء من هؤلاء الأشخاص أو بانتخابات تقام مرتين أو ثلاث تبعدهم عن المشهد السياسي والتخلص منهم من غير رجعة لهؤلاء المتسلقين دون وزن أو ثقل حزبي أو سياسي..
ملء الفراغ
أستاذ علم النفس المشارك بجامعة الخرطوم، دكتورة عبير عبد الرحمن أكدت (للصيحة) أن المشاركة السياسية لديها جوانب مختلفة منها الإيجابية، وهي الإحساس بالمسؤولية، فالسياسي كلما أتيحت له فرصة يقبل الظهور لتقديم ما لديه، بينما أحايين كثيرة تكون هذه المشاركة سلبية خاصة إذا كانت تلك الممارسات مرتبطة بالأضواء الإعلامية والظهور وغيرها. وأوضحت عبير أن هذه الممارسات تنطبق على كل السياسيين دون استثناء خاصة إذا كانت مرتبطة بالمكانة الاجتماعية فمن الصعب مفارقة هذه الأضواء بالنسبة لتلك الشخصيات التي ورثت هذا العمل السياسي من الأسرة للمحافظة على دور الأسرة تجاه الإرث، مشيرة إلى أن الرغبة في التمسك بالمشاركة مرتبطة بإشباع أشياء أكثر من كونها ممارسة وخدمة للمجتمع.
وأكدت عبير أن هؤلاء مشاركتهم لا تفيد البلد كثيراً مطالبة بوجود شخصيات سياسية لديها إحساس بالمسؤولية ودوافع إيجابية للمشاركة السياسية متوازنين نفسياً، مشددة على أن كل النماذج الموجودة هذه الأيام في الساحة السياسية من تلك الشخصيات السابقة، لم ولن تأتي بجديد من خلاله تقوم بخدمة الدولة، وإنما تظل هكذا تريد المحافظة على مكانتها مما يكون رأياً سلبياً حول تلك الشخصيات.
وقللت عبير من أولئك الذين جاءوا للسياسة من باب الهواية خاصة أصحاب المهن من الأطباء والمهندسين وغيرهم تركوا كل تلك المهن وأقبلوا على السياسة برغبة قوية وأصبحت جزءاً من تكوينهم، لن يستطيعوا تركها. وقالت عبير إن السياسيين السودانيين يتمسكون بالسياسة رغم كبر السن، وتقدم العمر، كاشفة أن أولئك الذين صنعوا التغيير من الشباب يظل التعويل عليهم كثيراً في إحداث فرق واضح لمآلات الوضع السياسي مستقبلاً دون إشراك هؤلاء المتمسكين بالسلطة في كل الأوقات والظروف، منادية بعدم إحداث أي فراغ في الساحة السياسية حتى لا يملأه هؤلاء المتمسكون والمنتفعون سياسياً الذين ينظرون لهذا الظرف الحالي باعتبارهم أصحاب خبرة.
ملل شعبي
أستاذ العلوم السياسية والإستراتيجية بالجامعات السودانية الدكتور عبدو موسى مختار، قال إن الجيل الذي قاد التغيير يختلف عن الأحزاب السياسية السودانية لأنه خالفها في تفكيرها في رؤى مستقبلية، لأن الأحزاب لم تعطِ فرصة للأجيال التي بداخلها، مشيراً إلى أنها ليست لديها القدرة على أن تبني مستقبل ديمقراطية، لأنها تفتقدها داخلياً وفاقد الشيء لا يعطيه.
مضيفاً أن الشعب السوداني نفسياً سئم من هذه الشخصيات المتكررة وتاريخها المعروف الذي ارتبط بالفشل في الديمقراطية والشمولية لو أصبحت عرضة للاختراق من الداخل والخارج، بل وأصبحت مهترئة وبنيتها الحزبية ضعيفة لا تسمح بأن يُطلق عليها حزب بالمفهوم العملي، لذلك لا تستطيع أن تفرض نفسها لقيادة المرحلة الانتقالية. وشدد عبدو على أنه يجب على هذه الأحزاب أن تقلل من ظهورها وتستحي ولا تقحم نفسها في نفق ضيق، وألا تكون ضمن الجهاز التشريعي سيما في التشكيلة المدنية للحكومة المقبلة، ريثما تكون قريبة من جماهيرها وتكوّن نفسها وتستعد للمرحلة القادمة، لأنها فشلت في الجهاز التنفيذي الذي أصبح شيمتها، بل وكانت جزءاً من المؤتمر الوطني، وشاركت عبر سنوات مع المؤتمر الوطني الذي لم ينجح معها ولا بعدها، ولم تقدم له شيئاً، لذا لزم عليها الابتعاد.
أعدها: النذير دفع الله
الخرطوم (صحيفة الصيحة)