متوشحاً بعلم السودان في باحة الاعتصام أمام القيادة العامة يقول الشاب العشريني خباب: “لدي حلم بوطن الحرية والسلام والعدالة والنماء”، مضيفاً: “سنظل في الشارع حتى يتم تسليم السلطة إلى السلطة المدنية”. خباب الذي قضى بالأمس ليلته الرابعة عشرة أمام ساحة الاعتصام يشير إلى أنه ما زال يحلم بمستقبل أفضل لم تُثنِه حرارة الشمس ولا برودة الليل عن مواصلة الاعتصام من أجل تحقيق مطالبهم، تجرع خلالها كميات من الغاز المسيل للدموع وواجه خلالها رصاص “كتائب الظل”. خباب مثله مثل آلاف الشباب غير المنتمي لحزب سياسي، إلا أنه استجاب لنداءات الشارع منذ موكب الخامس والعشرين من ديسمبر، وانخرط في العديد من التظاهرات في السوق العربي وأحياء العاصمة المثلثة وصولاً لاعتصام القيادة العامة الذي أدى لعزل عمر البشير واقتلاعه من السلطة بعد حكم 30 عاماً ومن بعده عوض بن عوف، إلا أنه بعد أن شارف حلمه على التحقق يرى أن “ثورتهم” ما زالت تهددها المخاطر أبرزها شكوك حول نية المجلس العسكري الانفراد بالسلطة، وعودة النظام البائد، واختطاف الثورة من قبل قوى إقليمية، وانتهاءً بعدم تماسك قوى الحرية والتغيير التي تنظم الاحتجاجات مما يضيع مكاسب الثورة.
المجلس العسكري.. أزمة نوايا
اعتبرت قوى الحرية والتغيير “سقوط رأس النظام انتصاراً رمزياً. ومنذ وصول عبد الفتاح البرهان للسلطة حدث ارتياح نسبي، ولكن في الحقيقة فإن أغلب مطالب الثورة الجماهيرية لم تتحقق بعد، وعلى رأسها الترتيبات الانتقالية، واقترحت قوى الحرية والتغيير مجلساً سيادياً يمثل رأساً للدولة ومجلساً تشريعياً انتقالياً قومياً مصغراً وحكومة انتقالية مدنية بصلاحيات تنفيذية واسعة.
المحلل السياسي سيف عثمان، يرى أن لدى تحالف الحرية والتغيير أزمة ثقة في المجلس العسكري خاصة فيما يتصل بنواياه بشأن المجلس السيادي ونية العسكر في الاستفراد به، لذلك فإنه يتمسك ببقاء الاعتصام كسبيل وحيد لضمان تنفيذ المطالب، خاصة أن عملية عسكرية انتقالية بهذه الطريقة لن تُسكت التظاهرات.
وكان التحالف قد قدم مطالبه للمجلس العسكري، والتي حُدِّدَتْ بمجلس رئاسي مدني بتمثيل عسكري وحكومة مدنية بسلطات تنفيذية ومجلس تشريعي مدني انتقالي. لكن التجمع لم يشر إلى رد من المجلس العسكري حول مطالباته أو مشاورات بينهما بشأن هذه الخطوة. ويضغط “تجمّع المهنيين” على المجلس العسكري منذ أيّام، مطالباً بحلّه وتسليم السلطة لمجلس مدني.
تجمع المهنيين السودانيين وحلفاؤه في المعارضة السودانية أعلن أمس الجمعة أنهم بصدد الإعلان غداً الأحد عن تشكيل “مجلس سيادي مدني”، لكي “يحل محل” المجلس العسكري الحاكم.
تجمّع المهنيين السودانيين قال في بيان صحفي، إنه سيعلن عن الأسماء المختارة لتولي المجلس السيادي المدني الذي سيضطلع بالمهام السيادية في الدولة مساء الأحد خارج مقر القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم حيث يعتصم المتظاهرون.
ثمة أزمة ثقة في نوايا المجلس العسكري الانتقالي بشأن تسليم السلطة على الرغم من التأكيد المتكرر لقيادته بشأن نقل السلطة. ويرى مراقبون أن إصرار المؤسسة العسكري على التشبث بالسلطة في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة، مقابل تمسك المتظاهرين بضرورة تنحيها سيفقد مصداقية المؤسسة العسكرية لدى السودانيين. وأي من الطرفين لا يبدو واثقاً من أيهما الحليف أو العدو، فالريبة تزداد، ولا سيما بين المحتجين الذين يخشون من أن يحتال العسكر على النصر الذي حققوه بنقض الوعد الذي قطعوه بالعودة إلى الحكم المدني، خاصة بعد تصريحات عضو المجلس صلاح عبد الخالق التي نقلتها رويترز أمس نقلاً عن التلفزيون بعدم تسليم السلطة للمدنيين، فضلاً عن تعيين أشخاص محسوبين على النظام السابق مثلما حدث في تعيين عبد الماجد هارون وكيلاً للإعلام قبل اعفائه.
وشملت انتقادات قادة الحراك المجلس العسكري نفسه الذي يضم بعض المحسوبين على النظام السابق. وبحسب القيادي في نداء السودان ياسر عرمان، فإن رئيس اللجنة السياسية عمر زين العابدين، وجلال الدين الشيخ نائب مدير جهاز الأمن السابق، وصلاح عبد الخالق؛ يمثلون عتاة الإسلاميين في القوات النظامية. ويلمح عرمان إلى أن هذه العناصر تعيق إمكانية خلق تحالف واقعي ومحتمل بين المجلس العسكري وقياداته غير المنتمية للإسلاميين (البرهان وحميدتي) وقوى التغيير.
وكان المتحدث باسم المجلس العسكري شمس الدين الكباشي، قد صرح في وقتٍ سابق، بأن هناك إشارات سالبة واستهدافاً بعض أعضاء المجلس ليس لها مبرر من جانب الحراك الشعبي.
غير أن أستاذ العلوم السياسية محمد أحمد شقيلة، يرى أن عناصر النظام البائد تعمل على التشكيك في المجلس العسكري ونوايا قياداته عبد الفتاح البرهان وحميدتي، باعتبار أن وجودهما على رأس المجلس العسكري سيُفشل أي محاولات لها للقيام بالثورة المضادة لعدم انتمائهم للحركة الإسلامية أو المؤتمر الوطني، الأمر الذي جعلهم يتمتعان بالقبول والاحترام داخل الجيش والشارع.
في المقابل، فإن القيادي بالمؤتمر السوداني عزت الشريف، يرى أن السودان يشهد حالياً حوارين كبيرين أولهما حوار لوضع البلد في المسار المفضي للديمقراطية ينظر للأشخاص والمؤسسات التي تعيق هذا التحول، ومن لوازم التحول الديمقراطي إقرار المحاسبة والاتفاق على صياغتها، بينما الصيغة الثانية تتصل بتتبع الأشخاص، وإن كان يبدو أكثر ثورية في الحقيقة يمكن أن يقود البلد لشتاء شمولي جديد، مشدداً على أهمية التركيز على الإجراءات بجانب الأشخاص.
الشريف يرى أن “الحل التوافقي” يمكن أن يكون مخرجاً مناسباً للأزمة من خلال التوافق على مجلس سيادة مدني، يستند إلى الشرعية الشعبية يتكون من ثلاثة أو خمسة أو سبعة أشخاص من المدنيين والعسكريين، على أن تكون الغلبة فيه للمدنيين، وأن يكون محكوماً بإطار دستوري متوافق عليه يحكم مسيرة الفترة الانتقالية، وينظم العلاقة بين السلطة وأذرعها.
الصورة لا تبدو رمادية تماماً ؛ ففي أول اجتماع بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري، السبت الماضي، اتسمت انطباعات المعارضين بالارتياح، إلا أن خطورة الأمر تتعلق بتزايد الشرخ بين الطرفين وهو ما يمكن أن يسمح لعناصر النظام السابق بالتسلل وضرب الطرفين لاستعادة السلطة.
الدولة العميقة.. النظام البائد يتنفس
إمام مسجد بحي الرياض الخرطوم التزم بتوجيهات الأمين العام للمجلس الأعلى للدعوة الإسلامية عبد الله الأردب الذي دعا الأئمة في خطاب مسرب لمباركة تولي المجلس العسكري للسلطة والدعاء له، والتأكيد على قوامة الدين الإسلامي وقدسية شريعته الطاهرة التي لا تتأثر بسقوط الأنظمة، وقدم خطبة لم يبدع فيها ويهاجم المعارضة وقادة التظاهرات من قوى اليسار. بعد انتهاء الخطبة تصدى له أحد الشباب وفضح توجهه أمام المصلين وطلب منه إبلاغ من كتب له الخطبة بضرورة إقامة الشرع في من قتل ونهب وسرق المال. المصلون هتفوا له والإمام صامت يلوذ بالباقيات الصالحات، وهو ذات المشهد الذي تكرر في العديد من المساجد في الخرطوم والولايات.
الصحفي والمحلل عوض صديق، قال: “ما حدث بالأمس يدل على أن هذه المساجد تقودها الدولة العميقة وأنها مازالت ذات سلطة وتعمل في ظل غياب السلطة العسكرية، التي تتغافل أو تجهل أن وجود الدولة العميقة خطر في هذا الوقت، ويجب إيقافه ليس من قبيل مصادرة حرية الرأي، لكنها تثير انشقاق في المجتمع”. ويضيف أيضاً: “في كل مسجد تُليت فيه الخطبة الضرار، كان هناك شخص ليس عضوا في تجمع المهنيين يفهم معنى دس السم في العسل ليتصدى بشجاعة لفلول النظام الذين تحدثوا عن خطر الشيوعية، والتحذير من زحف ملايينهم في الميادين والجلوس فيها وحتى أدائهم صلاة الجمعة بالعقيدة الشيوعية”، مؤكداً أن السودانيين متدينون قبل 1989 ولا خوف عليهم بعد زوال الإنقاذ، ويختم حديثه بالقول: “هذا النوع من الأئمة يريد أن يخادعوا الناس بالدين ليذهبوا إلى كافوري ويذهب الشعب إلى الجحيم”.
قوى الحرية والتغيير ترى أن الثورة السودانية لم تكن تجاه البشير فقط بل كانت تجاه نظام كامل، وعليه فمطلب الشعب ليس تنحي البشير، ولكن تفكيك هذه المنظومة، بجانب ذلك تدفع لتحقيق مطالب الشعب في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسلام المستدام ومحاسبة مجرمي الحرب.
ويقول الناشط في قوى الحرية والتغيير مدني عباس: “نواجه دولة عميقة تتفتت بفعل الحراك الجماهيري ولكن لم يكتمل، فالإعلام هو إعلام ما قبل التغيير والقوى المسيطرة موجودة وفاعلة ولا توجد مظاهر ثورة رسمياً، والأمن لم يشهد تغييرات هيكلية”.
في السياق، ذاته يقول المحلل السياسي سيف عثمان، في كل مرة يتضح أن الثورة لم تستكمل وأن بقايا النظام ما زالت في السلطة تقاوم بوضوح المطالب التي يمكن أن تجبرها على التخلي عن السلطة وتتحين اللحظة المناسبة لاستعادتها.
الاستقطاب الإقليمي.. الثورة في مهب الرياح
مثلت إقالة وكيل وزارة الخارجية بدر الدين عبد الله من منصبه، بعد بيان للوزارة حول زيارة وفد قطري إلى البلاد، مؤشراً على وجود استقطاب إقليمي حاد حول مستقبل السودان بعد السياسات الخارجية المرتبكة للنظام السابق الذي اعتمد في علاقاته الخارجية على التموضع بحسب الفرص بصورة تكتيكية سريعة، دون أن تكون هناك نظرة استراتيجية بعيدة المدى في العلاقات الدولية.
وبرّر الناطق باسم المجلس العسكري، شمس الدين كباشي، قرار الإعفاء بأن بيان الخارجية صدر دون الرجوع للمجلس العسكري، وبأن البيان لم يعبر عن الموقف الرسمي للمجلس، فضلاً عن استناده إلى تقارير إعلامية متضاربة حول الزيارة.
وكانت الخارجية نفت الخميس في بيان لها ما بثته إحدى القنوات الفضائية من أن السودان رفض استقبال وفد قطري برئاسة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية.
وأثار ذلك الموقف حالة من الجدل بشأن موقف السودان من أطراف الأزمة الخليجية. المحلل محمد مصطفى يقول إن الثورة السودانية قد تكون عرضة للسرقة بالتدخلات الإقليمية في رسم مستقبل البلاد أسوة بما حدث في مصر مما يستوجب تدخلاً عاجلاً من الثوار وقوى الحرية والتغيير وتسريع تسليم السلطة لحكومة مدنية.
دول الخليج لديها مصالح متضاربة في السودان، وتتخوف من حدوث تغيير غير محسوب يقود لاختلالات كبيرة في المشهد الإقليمي في حال إعادة السودان لرسم علاقاته الخارجية، ويبدو المخرج الآمن لهذا الاستقطاب هو قدرة قوى الثورة جيشاً وشعباً على التفاهم والخروج بشراكة تقود البلاد بانسجام في المرحلة القادمة.
قوى الحرية والتغيير.. ثلاثة تحديات تواجه التحالف المعارض
في بداية الاحتجاجات في ديسمبر الماضي مثل تجمع المهنيين أفضل وصفة إسعافية للقوى السياسية المعارضة لتجاوز انقساماتها خاصة بين أكبر كتلتي معارضة (نداء السودان) و(قوى الإجماع الوطني) وقيادة العمل الاحتجاجي تحت راية الحرية والسلام والعدالة وشعار “تسقط بس” ليتوج بعد أكثر من 100 يوم على إسقاط البشير.
المعركة ضد البشير ونظامه القمعي كانت سهلة نسبياً لوضوح العدو وطبيعة الصراع، إلا أنه وبعد سقوطه بدأ أن الحرب انتهت، فظهر بعض الاسترخاء لتظهر الاصطفافات القديمة قبل إسقاط النظام بالكامل وتبرز للسطح بين الفينة والأخرى مؤشرات لخلافات تقديرية في التعامل مع المشهد السياسي -الاجتماع مع المجلس العسكري على سبيل المثال- يمكن في حال عدم إدارتها بالصورة المثلى أن تقود لانفراط عقد التحالف مما يسمح للمجلس العسكري بالاستقواء على المعارضة أو أن يُمكِّن ذلك المؤتمر الوطني من إعادة النظام والانتقام من خصومه، الأمر الثاني الذي لا يقل خطورة هو انهيار الثقة بين القوى المعارضة والجيش -تمت الإشارة إلى ذلك في موضع سابق- أما الأخطر من كل ذلك هو توافق المعارضة على شيء يكون غير مقنع للشارع مما سيفقده الثقة ويخلق حالة اصطفاف جديدة.
تقرير : محمد عبدالعزيز
الخرطوم (صحيفة السوداني)