بعدما ظنّ كثيرون أن الحراك الشعبي في السودان ضد الرئيس عمر البشير ونظامه قد سقط، بعدما خفَتَ نشاطه لأيام، استعاد الشارع المبادرة باعتصام السبت، الذي شارك فيه عشرات الآلاف، ولم ينته عند ذلك، بل استمر باعتصام مفتوح أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وبدا أنه أغضب السلطات التي سعت لفضه عبر استخدام القوة من قِبل “مليشيات” موالية لها، بحسب تعبير المعارضة، ما أدى إلى سقوط ضحايا من المحتجين، لكن ذلك ارتد تضامناً من الجيش مع المعتصمين، الذين أصروا على البقاء أمام مقر القوات المسلحة، لتظهر مؤشرات إلى انضمام ضباط، ولو برتب متدنية، للحراك، الذي كسب بذلك جولة في صراعه مع النظام، المفتوح على كل الاحتمالات.
”
لم تنجح كل إجراءات السلطة لتفريق المعتصمين أمام مقر قيادة القوات المسلحة
”
ومع بدء انحياز عسكريين لصالح المعتصمين، خصوصاً في ظل سقوط ضحايا من الجيش خلال الاعتداء على المحتجين أمام مقر قيادة القوات المسلحة، فإن تردد الجيش هو ما قد يحسم الوضع لصالح الحراك، خصوصاً أن هذه المؤسسة هي الركن الأساس الذي يعتمد عليه البشير للبقاء في الحكم، مُسقطاً كل التوقعات بإمكان تنحيه عن منصبه. ولم تنجح كل إجراءات السلطة لتفريق المعتصمين أمام مقر قيادة القوات المسلحة، مع محاولتها ثلاث مرات فض الاعتصام عبر القوة واستخدام السلاح، ما أدى إلى سقوط 10 قتلى، أمس، ليرتفع عدد القتلى جراء محاولات فض الاعتصام منذ يوم السبت الماضي، إلى 21 قتيلاً، بينهم 5 عسكريين، إضافة إلى 153 جريحاً، بحسب لجنة الأطباء المركزية.
هذا الواقع دفع آلاف السودانيين إلى التوافد نحو محيط المقر، للانضمام مجدداً إلى الاعتصام الشعبي، على الرغم من أن السلطات أغلقت الجسور الرابطة بين الخرطوم وأم درمان، وكذلك الجسور الرابطة بين الخرطوم والخرطوم بحري وشرق النيل، غير أن الآلاف استطاعوا السير مشياً على الأقدام للوصول إلى المكان، لتتزايد أعداد المعتصمين بكثافة.
وكانت قوات أمنية، ترتدي الزي الرسمي وتستقل مركبات عسكرية، قد فشلت 3 مرات في تفريق المعتصمين، وآخر تلك المحاولات عند السابعة والنصف صباحاً بالتوقيت المحلي. وبحسب بيان من قوى “إعلان الحرية والتغيير”، التي تنظم الاعتصام، فإن “مليشيات حكومية” أطلقت الرصاص على المعتصمين كما أطلقت المئات من عبوات الغاز المسيل للدموع تحت مسمع ومرأى العالم. وأوضح البيان أن “الوطنيين من الجيش السوداني تصدوا للمليشيات وفتحوا أبواب القيادة العامة للمعتصمين للاحتماء من نيران المليشيات”. وقال شهود عيان إن أفراد الجيش ردوا بقوة على المهاجمين وتبادلوا معهم إطلاق النار، مشيرين إلى أن عدداً من الجنود أعلنوا أمام الاعتصام انحيازهم التام للاعتصام وتعهدوا بالدفاع عن المعتصمين. ونشر ناشطون مقطع فيديو خاطب فيه ضابط المعتصمين معلناً انحيازه لهم، بينما وقف خلفه عدد من الجنود.
وفي تطور لافت، أعلنت الشرطة السودانية، على صفحتها الرسمية في “فيسبوك”، عن تخليها عن مهمة التصدي للمتظاهرين والتجمعات السلمية والاكتفاء بحماية المواقع الاستراتيجية. ولم توضح الشرطة في بيانها أسباب اتخاذها للقرار. وذكر البيان أن توجيهاً في هذا الخصوص قد عمم على كل الوحدات الشرطية لتنفيذه. ودعت الشرطة إلى توافق وطني وانتقال سلمي للسلطة وتوحيد أهل السودان. وقال مدير شرطة ولاية الخرطوم، إبراهيم عثمان، في تصريح لـ”العربي الجديد”، إن الشرطة ستركز في عملها خلال المرحلة المقبلة على العمل الجنائي، ولن تعترض سبيل أي موكب أو تجمّع سلمي، كما ستركز على حماية المواطنين.
هذا التطور مع انضمام ضباط في الجيش للمعتصمين، قد يكون بداية لتحوّل يغيّر مجرى الأمور في البلاد، بعدما كانت المؤسسة العسكرية الذراع الأقوى للبشير ضد خصومه والمعارضة. وكانت قوى “الحرية والتغيير” قد دعت، الإثنين، إلى ضرورة قيام “تواصل مباشر” مع قيادة الجيش من أجل “الانتقال السلمي للسلطة”. لكن سرعان ما أعلن وزير الدفاع الفريق ركن عوض بن عوف، أن القوات المسلحة “لن تسمح بانزلاق البلاد نحو الفوضى”. وقال بن عوف خلال اجتماع لكبار قادة الجيش، ليل الإثنين: “إن القوات المسلحة ليست ضد تطلعات وطموحات وأماني المواطنين، لكنها لن تسمح بانزلاق البلاد نحو الفوضى، ولن تتسامح مع أي مظهر من مظاهر التفلت الأمني”.
”
قلل المتحدث باسم الجيش من أعداد المنشقين، مستهجناً محاولات البعض تضخيمها
”
وإزاء الأنباء عن انشقاقات واسعة في صفوف ضباط القوات المسلحة داخل الخرطوم وفي مناطق عسكرية خارج الخرطوم، مع انحياز هؤلاء لصالح المعتصمين، فإن المتحدث الرسمي باسم الجيش السوداني، العميد أحمد خليفة الشامي، قلل في حديث لـ”العربي الجديد”، من أعداد المنشقين، مستهجناً “محاولات البعض تضخيمها” من دون أن ينفيها بشكل كامل. وأضاف الشامي أن “القوات المسلحة وكل الأجهزة الأمنية في غاية التماسك خلف القيادة لمجابهة التحديات التي تواجه البلاد”، مشيراً إلى أن بعض “مقاطع الفيديو التي بثت على وسائل التواصل الاجتماعي بثت مجتزأة لأغراض التشويش”، مبيناً أن “النسبة القليلة من المنشقين هم من صغار الضباط الذين لا يملكون الخبرة الكافية، وأنهم من نفس جيل الشباب الموجود الآن في الشارع”. وحول مدى استعداد القوات المسلحة للاستمرار في حماية المعتصمين في محيط القيادة العامة للجيش، قال الشامي إن القوات المسلحة قدرت خلال الأيام الماضية وجود المعتصمين في المكان لتوصيل رسالتهم على الرغم من أن التعبير تم بطريقة مشحونة ويطرح خيارات صفرية، مشيراً إلى أن القرارات الكبرى لا يمكن اتخاذها من دون رؤية استراتيجية كلية.
وفي استعادة لخطابات قادة جيوش عربية ضد مسارات التغيير الديمقراطي في بلادهم، قال الشامي إنه “تم ضبط كميات من الأسلحة في طريقها للخرطوم، وسماع أصوات إطلاق رصاص من داخل التجمعات بالقرب من القيادة العامة”، قائلاً إنه سيتم التعامل مع التجمعات بموجب قانون الطوارئ، حتى أنه قال إن هناك مسلحين من دارفور في صفوف المتظاهرين.
هذا الكلام يدل على وجود انقسام في رأي الجيش، بين قيادة لا تزال تصر على دعم البشير حتى الآن، وبين قاعدة باتت تنحاز إلى جانب المعتصمين، بما يطرح تساؤلات كثيرة غير واضحة عن كيفية تطور الأوضاع في الفترة المقبلة.
مقابل ذلك، يسعى البشير لجمع أركان النظام حوله، وهو ما برز من خلال ترؤسه اجتماعاً لحزب “المؤتمر الوطني” الحاكم، ليل الإثنين، هو الأول الذي يرأسه منذ إعلانه في فبراير/ شباط الماضي تخليه عن رئاسة الحزب ليكون على مسافة واحدة من الأحزاب، حسب قوله. وأكد المكتب القيادي خلال الاجتماع “دعمه للبشير في خطوات تحقيق الأمن كأولوية في المرحلة المقبلة في ظل وجود مؤامرات داخلية وخارجية”.
لكن التحديات أمام البشير لا تقتصر على الحراك الداخلي، إذ بدأت تتصاعد المواقف الخارجية الداعية للإنصات لصوت الشعب. وفي هذا السياق، قالت دول الترويكا التي تضم بريطانيا والولايات المتحدة والنرويج، في بيان أمس، إن الوقت قد حان لكي تستجيب السلطات السودانية للمطالب الشعبية بطريقة جادة وبمصداقية. وأضافت أن الشعب السوداني يطالب بالانتقال لنظام سياسي شامل يتمتع بشرعية أكبر، وعلى السلطات السودانية الاستجابة وتقديم خطة ذات مصداقية لهذا الانتقال، مشيرة إلى أن الفشل في تحقيق ذلك يحمل مخاطر التسبّب في المزيد من عدم الاستقرار، وتتحمّل القيادة السودانية مسؤولية جسيمة لتجنّب مثل هذه النتيجة. كما دعا الاتحاد الأوروبي، أمس، السلطات السودانية إلى السماح بتنظيم التظاهرات السلمية المطالبة بتنحي النظام. وأشارت “دائرة العمل الخارجي” في الاتحاد الأوروبي إلى أن أعداد الذين خرجوا في الاحتجاجات منذ السبت الماضي “غير مسبوقة”. وأضافت “يجب أن تكسب الحكومة ثقة أولئك المحتجين عبر اتخاذ إجراءات ملموسة”.
العربي الجديد