تقول القصة القديمة المشهورة أن الشاعر كان يسير في أحد أزقة المدينة حينما فتحت إحدى الحسناوات باب منزلهم فجأة لغرضٍ ما لكنها ما لبثت أن عادت للداخل مُسرعة وهي تغلق الباب خلفها عندما شاهدت رجلاً غريباً يسير في الطريق.
هذه الثواني المعدودة كانت كفيلةً بأن تستنطق المرحوم سيد عبدالعزيز في قصيدته الشهيرة “وهل يخفى القمر في سماهُ”!!
هذه القصة الحقيقية أعلاه، هي عنوان بارز عما كان عليه شكل التعامل والعلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة في زمن السودان القديم مُنذ بداية القرن الماضي وحتى بعد انتصافه بقليل.
فقد كان من النادر، والمحظورربما، وجود المناسبات المختلطة والأنشطة العامة التي تجمع الجنسين معاً.
ورغم ذلك فقد تمكنت حواء السودان من أن تصل لريادة المرأة أفريقياً وعربياً بفضل عزيمتها وصبرها وتخطيها للعقبات التي صُنعت من أجل إضعافها.
إشكال وعلاج
تعالت أصوات النساء في بلادي في الفترة الأخيرة بصورة ملحوظة جداً وهن يشتكين ويتذمرن بقهرٍ عن تعرضهن للتحرش في أكثر من مرةٍ وخاصةً في المناسبات العامة.”
الشاعر كان يسير في أحد أزقة المدينة حينما فتحت إحدى الحسناوات باب منزلها فجأة لغرضٍ ما لكنها عادت للداخل مُسرعة فقال: “هل يخفى القمر في سماهو”
”
وهذا الأمر القبيح وإن كان موجوداً مُنذ القدم إلا أنه لم يكن مستفحلاً لهذه الدرجة في السودان، فما الذي تغير!!
لم تكن التربية الجنسية في القرن الماضي تعني شيئاً في الحياة العامة نسبةً لحرص المجتمعات خاصةً العربية منها على تغطية معظمها ودفنها حفاظاً على السمعة العامة دون البحث عن علاج لها.
ومع تقدم الزمن وتفاقم المشاكل والشذوذ الجنسي،اتجه العالم قسراً للبحث عن حلول جذرية.
وقد اتفق الجميع على أن مرحلة الطفولة هي الأهم في تنشئة وتربية الطفل ليكبر مُعافىً من جميع النواحي.
لذلك قامت الكثير من الدول بمراجعة المناهج المدرسية وحذفت الكثير مما يثير أموراً جنسية بصورة غير مباشرة لدى الطفل.
لكن أهم الخطوات كانت هي فصل عقل الطفل عن كل ما لا يناسب عمره.
ومن هنا جاء تصنيف للراشدين فقط، أو لا يصلح للقاصرين، وأصبح أمراً إلزامياً في الكتب والبرامج والمسلسلات التلفزيونية.
ولاحقاً تمت إعادة هيكلة المدارس و تفريق الأطفال الكبار من الصغار كخطوات احترازية.
الاهتمام الأكبرأصبح هوالحرص على ما يصل لمسامع الطفل، وما قد يترسب بدواخله ليتفاقم لاحقاً في غفلةٍ من الأهل.
لذلك تجد أغلب الأهالي يقطعون حديثهم عند قدوم أحد الأطفال، أو يواصلونهُ بطريقةٍ لا ينتبه لها الطفل بتاتاً.
سلوكيات وتصنيف
ومن هذه الزاوية، أود التحدث والإشارة للأدب البلاغي والشعر الذي اقتحم كل بيوت السودان على مر السنين مما جعله جزءاً أساسياً من وجدان وسلوكيات الشعب السوداني.
وأعني هنا مجموعة الأغاني التي اشتهرت بيننا بأغاني “الحقيبة”، فقد صار الاستشهاد والتغني بأبياتها من السمات البارزة في المجتمع.
فنحن نتغنى بأبياتها عند استقبال الضيوف، أو عند الحضور إلى مجلس ما، وعند تناول الطعام والشراب.
ونجدها أكثر ظهوراً عند معاكسة الشاب للفتاة وذلك بتغنيه لأبيات تناسب وصف جسدها في أغلب الأحيان.
وأخذ أغاني الحقيبة كمثالٍ هنا ليس من أجل رصد وتقييم هذه الأعمال الفنية بقدر ما هو تنبيه للعبارات والكلمات التي نرددها أمام أبنائنا.
كما أن أغاني الحقيبة تحمل جانبين صاحبا تأثير كبير على نشأة الطفل.
ملامسة الوصف
الجانب الأول، هو الكلمات والعبارات المثيرة التي تمتلئ بها أغاني هذه الفترة الزمنية.”
آدم السوداني وجد ضالته التي ستُبرد قليلاً من نار حرمانه، في الوصف التفصيلي لجسد المرأة الذي تمتلئ به هذه أغاني الحقيبة
”
فالقصة الحقيقية المذكورة في صدر المقال تمثل نوعية المجتمع في ذلك الوقت.
وقد وجد آدم السوداني ضالته التي ستُبرد قليلاً من نار حرمانه، وذلك في الوصف التفصيلي لجسد المرأة والذي تمتلئ به هذه الأغاني.
لذلك تغلغلت هذه الكلمات وتأصلت عميقاً في قلب الرجل يُمتع بها نفسه ويُطفئ القليل من ظمأه بروعة الوصف والخيال.
وكمثال لهذه الأبيات:
“والصدر البي النهد برز قلع تقلو رجح بالضمير الانتحل
والكفل في المشيه يقلع ويتنتل ذي مشية المهرة في الطين الوحل”
“الصدير برز قلع وانتبر
والنهيد رخص لسه ما جبر”
هذه الأبيات – كمثال فقط – لتوضيح المقصد من وصول هذه العبارات بكثرة إلى مسامع أطفالنا.
وإن لم يفهم بعضها فإنها ستظل محفورة بداخله وسيقوده فضوله المتنامي لفهم المعنى ومن ثم سيرسم عقله صورة واحدة للمرأة في نظره.
وبدلاً من النظر إليها كإنسان كامل سيكون عقله موجهاً ليرى أجزاءً معينة فيها فقط.
وحتى البنت التي ترى هذا الإعجاب الكبير بتلك الكلمات سيُصبح جُل تركيزها أن تكون كالفتاة التي تم وصفها في القصيدة وإن اضطُرت لإبراز مفاتنها.
إزدواجية التقييم
أما الجانب الثاني، فهو ترديدنا لإعجابنا الدائم بالفعل الرائع والكلمات الجميلة التي أتى بها شعراء تلك الفترة، فدعونا نرى ما هو سبب الإعجاب!!
أغلب قصائد الغزل والوصف في هذه الأغاني كانت مناسبتها هي رؤية الشاعر للفتاة المعنية لمدةٍ لا تتعدي بعض من دقائق أو أقل.
إلا أنها كانت كافية ليضع فيها وصفاً تفصيلياً جداً يبرز مفاتنها وجمالها.
هذا الأمر والذي يُعتبر تحرشاً لفظياً وتعدياً على حرمات الآخرين نحن نجمله ونصنع من فاعله رجلاً كُنا نود أن نكون مثله.
هكذا سيفهم أبناؤنا من إعجابنا الشديد بهم و الذي نبديه أمامهم.
فلو كان ما قام به الشاعر من تحرش وتعدٍ أمراً رائعاً فعلاً، لكُنا تمنينا أن تكون كلماته في شقيقاتنا أو زوجاتنا.
لكنه جميل فقط لأنه لا يمس أهل بيتنا وإن كان قد سبب الكثير من الأذى لتلك الفتاةِ وأهلها.
تلك الإزدواجية الخطيرة واللافتة للعيان إلا لمن أبى تجعل التقييم عصياً على عقل أطفالنا.
فماذا سيكون رد فعلنا عندما يقوم أحد الأبناء بترصد إحدى فتيات الحي ووصف جسدها شعراً وبالتفصيل!!
أفواه و عقول
أعتبر نفسي من عشاق هذه الفترة الغنائية الثرة، فشعر الحقيبة يحتوي على الكثير من القصائد التي تتحدث عن حشمة المرأة السودانية وعلو كعبها.
لكننا هنا نذكر الأمور الشاذة منها والتي قد ترسل إشارات خاطئة لعقول بريئة ما زالت تتلمس خُطاها، فتختلط عليها الأمور والازدواجية في التقييم.
فلا يشعر بنفسه إلا وقد امتدت يده “تُلامس” ما لا يحق له “مُلامسته”.
بينما تصنع بناتنا من أنفسهن دمى تُحاكي فاتنات الحقيبة علهن يكُن محظوظات، فيصادفن متحرشاً أو شاعراً، أو ربما شاعراً متحرشاً.
بقلم: صالح تاج السر
شبكة الشروق