* ظلت اجهزة الاعلام العربية والأجنبية تتجاهل ثورة الشعب السودانى منذ انطلاقها في التاسع عشر من ديسمبر الماضى وحتى يوم امس الذى خرج فيه الناس الى الشوارع بالالاف يطالبون بسقوط النظام الفاسد، ولا تتطرق إلا باستحياء شديد لبعض الاحداث والاخبار غالبيتها حكومية، بدون ان تعطى (كأجهزة اعلام يفترض فيها المهنية ومتابعة الاحداث ونقلها بحياد)، الاهتمام المطلوب لما يجرى في الشارع السودانى، وتجاهلت حتى جرائم القتل التى ارتكبتها كتائب النظام المسعورة باطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين السلميين الابرياء، وغيرها من الجرائم البشعة بدون ان يحرك ذلك ساكنا في ضميرها المهنى النائم عمدا او استصغارا واحتقارا لما يجرى في السودان!!
* وإذا إفترضنا بأن التظاهرات لم تكن في نظرها من حيث الحجم تستحق غير الاشارة إليها في قعر النشرة، أو نشرها بكلمات موجزة تظهر على الشريط الإخبارى اسفل الشاشة، فما بال هذه القنوات تتجاهل تظاهرات الأمس التى خرجت فيها الجماهير بالآلاف في معظم انحاء البلاد، خاصة في العاصمة الخرطوم، وإنتشرت الى اماكن ومواقع حيوية مثل الميدان المواجه للقيادة العامة للجيش السودانى وسط الخرطوم، وغيره من الأماكن الأخرى ..!!
* وإذا وجدنا العذر للقنوات العربية بمختلف انواعها، باعتبار أنها قنوات مسيسة تنقصها الحيادية وتقف مع مصالح أصحابها، وتسعى من أجل تحقيق أهدافهم، ولقد أُسست في الأصل لهذا الغرض مثل قنوات (الجزيرة والعربى والحوار) التى تتبع لدولة قطر، وقناتى (العربية والعربية الحدث) اللتين تتبعان للسعودية، فما بال قنوات مثل (البى بى سى) البريطانية و(فرانس 24 ) الفرنسية، اللتين نحسبهما مستقلتين ولهما حرية واسعة في الحركة ونقل ونشر الاخبار والتعليق عليها وتحليلها بكثير من المهنية المطلوبة بما في اخبار بلديهما رغم إنتمائهما الحكومى أو بعبارة أصح للقطاع العام في بلديهما .. هل هو إستصغار أم إحتقار أم تجاهل لما يجرى في السودان، وما يقوم به شعب السودان وتعرضه لأبشع انواع الجرائم والإنتهاكات في سبيل ذلك؟!
* دعونا نقول أن (فرانس 24 ) تعطى إهتماما أكبر للأحداث التى تقع في الدول الناطقة بالفرنسية أو في المستعمرات الفرنسية السابقة التى تربطها بفرنسا الكثير من الارتباطات والعلاقات والمصالح، ولقد لاحظنا اهتمامها الكبير بالاحداث في الجزائر خاصة نسختها الناطقة بالعربية، ولديها ساعة إخبارية يومية تطلق عليها الساعة المغاربية والكثير من البرامج الاخرى التى تنقل ما يدور في المغرب العربى، بإعتبار أن دول المغرب العربى (تونس، الجزائر، المغرب) تتحدث الفرنسية وكانت مستعمرات فرنسية، ويعمل بالقناة الكثيرون من أصل مغاربى، وعلى هذا الاساس فإن اهتمامها بدول المغرب العربى وغيرها من الدول الناطقة بالفرنسية في أفريقيا وغيرها من قارات العالم يفوق بكثير إهتمامها بالدول الناطقة باللغات الأخرى كالإنجليزية وغيرها، رغم أن هذا الحديث ليس صحيحا في مطلقه، فهى (مثلا) تعطى الكثير من المساحة لاحداث نيجيريا وغانا ومصر (مثلا)، ولديها برنامج خاص عن مصر يستعرض كافة أنواع الأحداث والأنشطة التى تحدث في مصر .. إلخ، فلماذا تتجاهل (البى بى سى) البريطانية أخبار السودان؟!
* لماذا تتجاهل البى بى سى ثورة السودان (بالتحديد)، ولا تعطيها إلأ أضيق المساحات رغم أن السودان كان مستعمرة بريطانية، ولا تزال بريطانيا رغم استقلاله عنها قبل أكثر من نصف قرن من الزمان تعتبره من مناطق نفوذها، ومحل إهتمامها، وتولى مشاكله الكثير من الوقت والمجهود مثل الحرب الأهلية في الجنوب (سابقا) وتدخلها بشكل مباشر في إيقافها عبر توقيع إتفاقية السلام الشامل في يناير 2005، ولا يزال السودانيون مرتبطين بها في كثير من مجالات الحياة، فضلا عن ارتباط المستمع والمشاهد السودانى الوثيق بالبى بى سى وتفضيل الاستماع إليها على كثير من المحطات منذ وقت بعيد خاصة قبل انتشار البث الرقمى، ووجود عدد من الاعلاميين السودانيين على مر العهود داخل استديوهاتها، مثل الطيب صالح، وإسماعيل طه، وأيوب صديق، ولاحقا عمر الطيب ورشا كشان ..إلخ، فلماذا تتجاهل البى بى سى أخبار السودان؟!
* أعرف من خلال عملى كصحفى، أن تأثير السودانيين داخل البى بى سى محدود جدا، ولا يقارن بتأثير اللبنانيين والمصريين الذين يتحكمون فى كل شئ فيها ويحتكرون الوظائف ويحتكرون معظم المساحة لاحداث واخبار دولهم، ويفرضون رأيهم على زملائهم السودانيين داخل القناة حتى في ما يتعلق بالسودان، كما ان جهاز الأمن السودانى يفرض على المحطات الأجنبية التى تعمل من داخل الخرطوم رقابة لصيقة وشروطا صعبة للعمل، بل إنه يفرض عليها الضيوف الذين تستضيفهم من داخل استديوهاتها بالخرطوم ليدلوا برأيهم في الأحداث، ولكن هل يبرر ذلك التجاهل الشديد الذى تتعامل به البى بى سى مع احداث السودان، والمزاجية الشديدة التى تتبدى في نقلها لاخبار السودان حسبما يقرر الذين يتحكمون في إدارتها وإرادتها وطبيعة نظرتهم للسودان أخباره؟!
* لن اكون مغاليا بوضع السودان في مقارنة مع مصر (مثلا) من حيث الأهمية والحجم، أو مع الجزائر من حيث حجم وجماهيرية التظاهرات وتلاحق الاحداث الأخيرة، أو مع اليمن أو ليبيا من حيث نوع وطبيعة الأحداث والاهتمام الدولى بهما، ولكن ألا تستحق ثورة السودان الإهتمام اللائق في أجهزة الاعلام المستقلة، خاصة انها تحدث تحت ظل نظام قهر دكتاتورى فاسد، إرتكب الكثير من الجرائم الفادحة، وقائده أول رئيس في تاريخ العالم جالس على مقعده تطارده العدالة الدولية ممثلة في المحكمة الجنائية الدولية التى تحتضنها وترعاها الدول الأوروبية، مما يستوجب أن تنظر أجهزة الاعلام المستقلة وتحديدا الأوروبية الى ما يحدث في السودان بشئ من الجدية والمهنية يتلاءم مع طبيعة ونوع وحجم الحدث، خاصة مع جرائم القتل والانتهاكات التى رافقته، أم أن النظرة الإستعلائية للسودان من جنسيات معينة تمددت مع المتحكمين فيها الى هذه الأجهزة فغابت عنها المهنية المطلوبة، وغاب السودان عن اثيرها وشاشاتها؟!
الأجهزة الاعلامية العربية، لا تشغلنى فهى ــ كما قلت في بداية الحديث ــ مجرد أدوات لخدمة مصالح أسيادها وتحقيق أهدافهم، وما نشرها لبعض ما يجرى في السودان إلا محاولة من دولها للضغط على النظام الفاسد الخانع لإرادتها في السودان، لتقديم المزيد من الخدمات والتنازلات والانحياز الكامل لها، وقطع صلاته وإنهاء إرتباطاته بخصومها، والركوع لها وحدها، ولا علاقة لما تنشره عن السودان بالاعلام كمهنة !!
أختم القول انه، رغم التجاهل ورغم الاستعلاء والنظرة الدونية، ورغم أنف هذه الأجهزة الجائرة والمتحكمين فيها، فإن الثورة السودانية ماضية في طريقها، والشعب السودانى قد اختار طريقه ولن يعيقه عن الوصول الى مبتغاه وإسقاط أزلام النظام الدكتاتورى الفاسد عائق او جاهل او متجاهل او إقصائى إستعلائى حاقد .. وكما سقط هبل، فسيسقط البشير وأصنام العجوة التى تدور في فلكه، طال الزمن أم قصر !!
مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة