استغلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذكرى الـ500 لرحيل ليوناردو دافنشي، لفض الخلافات بينه وبين الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، وذلك عقب سحب فرنسا سفيرها من إيطاليا. دعا ماكرون نظيره الإيطالي لزيارة فرنسا للاحتفال بهذه المناسبة في الثاني من أيار القادم، لتأكيد العلاقات التاريخية بين الشعبين ومناقشة مستقبل أوروبا.
ليست الحادثة السابقة إلا إشارة إلى أهميّة ليوناردو دافينشي، لا فقط على المستوى الفنيّ، بل أيضاً الثقافيّ، بوصفه رمزاً عالمياً، وصاحب الموناليزا اللوحة الأشهر في العالم، ومحطّ الحكايات والأبحاث التاريخيّة والأساطير التي ما زالت إلى الآن تدور حوله وحول أعماله. فكل ما أنتجه يثير الجدل ويلعب بمخيّلة المتابعين، سواء كان رسماً أو نصاً أو تخطيطاً أو حتى اختراعاً، إذ تحيط بدافينشي هالة تجعل كل ما يمسّه أشبه بلغز أو أحجية تخفي ورائها تاريخاً ما.
الاحتفاء بدافينشي ليس سياسياً فقط؛ إذ تستعد فرنسا لإقامة سلسلة من المعارض لاكتشاف الجوانب المختلفة من تاريخه الفنيّ، وأولها في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس، التي تستضيف معرضاً لتخطيطاته التي يبلغ عددها 2500، والتي نشاهد فيها أبحاثه في التشريح ومخططات اختراعاته ولوحاته الشهيرة، كالعذراء ويسوع الطفل وغيرها من الوثائق التي تكشف لنا طبيعة عمله ونشاطه الفنيّ وتوثق رحلاته في أنحاء أوروبا.
يتجاوز الحديث عن دافينشي أعماله ومنتجاته، إذ أصبح نفسه موضوعة فنيّة ومحط جهود الكثير من التجارب المتنوعة، سواء كانت تنتمي للفنون التقليديّة أو تلك المعاصرة، فالموناليزا جزء من الثقافة الشعبيّة وحركة البوب آرت، كما نرى في مجموعة البوسترات التي أنتجها الفنان رومان سيزلوفيتش أو تلك التي أنجزها آندي وارهول، في محاولة لكسر أصالة الموناليزا، وجعل نسخها الضوئية متوافرة للجميع. كذلك في لوحات دايفيد لا شابيل التي استبدل فيها أيقونات العشاء الأخير بشخصيات وأنماط مختلفة تعكس روح العصر. فدافينشي واحد ممن ساهموا في خلق ذاكرتنا البصرية عن المقدسات وأشكالها، وشكّل الإطارات التي تتحرك ضمنها، ليأتي البوب آرت كإعادة قراءة لمنتجاته مع إضافة هالة بديلة لها، استبدلت قدسية الدينيّ بـ”روعة” الشعبي والاستهلاكي، وكأن دافينشي حدد “الوضعيّة” و”الشكل” الذي يمكن أن يأخذه الشخص في حال أصبح أيقونة.
لا يمكن الحديث باختصار عن “هيمنة” دافينشي الثقافيّة في مختلف المجالات، هو واحد من شخصيات “سلاحف النينجا”، وفي ذات الوقت محرك رواية دان براون الشهيرة “شيفرة دافنشي”، بل حتى إن تخطيطه “الرجل الفيرتوفي” يعتبر محركاً للكثير من الدراسات الجندريّة، التي تجد فيه شكلاً مهيمناً على تاريخ الفن والعمارة، هو الرجل متقن التصميم الذي تتحرك خصائصه في مختلف القطاعات. الأمر نفسه في ما يخص لوحاته التي تخضع لفحوص مايكروسكوبية وتحليل الطيف اللونيّ بحثاً عما هو مخبّأ، أما حياته فما زالت محطّ التكهنات وتتضارب الكثير من المعلومات عنها، فالبعض يرى أنه خبأ وجهه في عدد من لوحاته، وأنه كان ذا نظام غذائيّ مميز ويستطيع الكتابة بالمقلوب وصمم عدداً من الألغاز والأحاجي، واخترع دبابة وطائرة هليكوبتر.
لا تعكس سيرة دافينشي صورة الفنان المعذب، بل كان دوماً محط إعجاب البابا وأسرة ماديتشي، وميسور الحال تُصرف الأموال عليه حيثما تنقل. ويقال إن ملك فرنسا فرانسيس الأول وضع رأسه بين يديه حزناً على فقدانه حين رحل في قصر أمبواز، الذي دعا ماكرون إليه نظيره الإيطالي.
لا بد من الذكر نهاية، أن لوحة دافينشي “يسوع مخلص العالم” بيعت في المزاد في نيويورك بـ 450 مليون دولار، لتتفوق على أعمال بيكاسو وويليم دي كونينغ، واقتنتها إمارة أبو ظبي لعرضها في لوفر أبو ظبي، لتكون اللوحة الأولى لدافينشي التي يقتنيها بلد عربيّ.
العربي الجديد