من خلال متابعة لصيقة ومراقبة عن كثب ووجود قريب من تفاصيل ودقائق المفاوضات الجارية في أديس أبابا بين وفد الحكومة وقطاع الشمال بالحركة الشعبية، حول قضية المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق، لا نجد عناءً كثيراً في الإدراك والتيقن بأن هناك صعوبات وعقبات جمة حقيقية تواجه سير عملية التفاوض، بالرغم من بارقة أمل خافتة وخفيضة تلوح في حلكة معتمة تفصل بين الجميع ولحظة التوقيع على وثيقة اتفاق محتملة.
ويمكن أن تتخلص هذه الصعوبات والعقبات في النقاط التالية، دون التراهن بشكل قاطع على أنه لا يمكن تجاوزها:
أولاً: المسافة بين طرح الحكومة وطرح قطاع الشمال مازال بعيداً ولا مقاربة بينهما، ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى طبيعة تفكير الحركة الشعبية قطاع الشمال ونظرتها للقضية ونقطتها الجوهرية التي انطلقت منها، فالحركة الشعبية قطاع الشمال وقيادتها السياسية الثلاثية الحالية «عقار والحلو وعرمان» مازالت تتبنى المشروع السياسي للحركة الشعبية الأم في عهد قرنق، وهو مشروع السودان الجديد وعملية إعادة تركيب السودان على أسس جديدة، وعقب انفصال جنوب السودان ظل قطاع الشمال الأكثر تشبثاً بهذه النظرة لأسباب سياسية ونفسية معلومة عن هذه القيادات الثلاث، واتخذت قضية المنطقتين في ظل حالة التجاذب بين دولتي السودان في حينها باعتبار أن ما تحقق في فصل الجنوب خطوة اضطرارية أولى يمكن أن تستكمل بتحرير السودان كله كما تحلم الحركة الشعبية، وسيؤدي نشوب الحرب في هاتين المنطقتين مصحوباً بـأزمات دارفور ومناطق أخرى والضائقة الاقتصادية وترشيح السودان للانهيار لتعجيل سقوط النظام ودخول الحركة الشعبية وحلفائها الخرطوم وإعلان فناء السودان القديم، وعلى أنقاضه يقوم سودانهم الجديد.. وظل آيديولوجيو قطاع الشمال مع بعض القوى السياسية الداخلية مثل الحزب الشيوعي السوداني ومجموعات معارضة أخرى يتشاركون أحلام اليقظة ويعيشون على رقراق سرابها البعيد.
ولذلك مازال هؤلاء القادة الثلاثة لقطاع الشمال يدفعون في هذا الاتجاه رغم علمهم باستحالة تحقيق هدفهم وفشله، ولذلك تبنوا قضية جنوب كردفان والنيل الأزرق، وساعدتهم قوى دولية كبرى على ذلك، فالمصيبة هي وقوع هذه القضية في المنطقتين والحرب الدائرة في أيديهم، ويتحدد مصيرها بمصيرهم وبمدى طموحاتهم الشخصية، وإن لم تتغير هذه النظرة ويفك الارتباط بين قطاع الشمال وحربه ووضع المنطقتين فإنه من الصعب طي هذا الملف بسهولة، لأنه بتحقيق سلام حقيقي واستقرار وفرض الدولة سيطرتها على كل المناطق وإنهاء الحرب فإن ذلك يعني نهاية قطاع الشمال.
ثانياً: اختيار ياسر عرمان لرئاسة وفد التفاوض من قبل قطاع الشمال، وعدم حضور أية كوادر سياسية من أبناء هاتين المنطقتين معه، وإصراره على القفز خارج أسوار التفويض الذي منحه القرار «2046» الصادر عن مجلس الأمن الدولي وقرارات مجلس السلم والأمن الإفريقي بقصر المنبر التفاوضي على قضية المنطقتين، يعني أنه صادر وهو ممثل لعصابة الثلاثة، إرادة أبناء هاتين المنطقتين وتسخيرها لصالح أجندتهم واستثمارها من أجل المطمع السياسي، فواضح من مجريات التفاوض أن هنالك اتجاهين داخل وفد قطاع الشمال، الاتجاه الرسمي المعبر عنه عرمان ويتبعه الآخرون طائعون مجبرون، واتجاه صامت وربما يكاد ينفجر يعبر عنه أبناء المنطقتين، وقد عزز ذلك الخطاب والمذكرة الضافية الرافضة التي كتبها القيادي في الحركة الشعبية ووالي جنوب كردفان الأسبق إسماعيل خميس جلاب من مقر وجوده في جوبا للوساطة ممثلة في الآلية رفيعة المستوى، يعلن فيها عن موقف أبناء النوبة بأن عرمان لا يمثلهم ولا أجندة التفاوض التي جاء بها الوفد تعبر عن قضيتهم. والملاحظ هنا في أروقة المفاوضات أن عرمان يهيمن بالكامل على القرار التفاوضي ويمسك الخيوط كلها بيديه ولا يرغب حسب رأي مراقبين عديدين هنا في تحقيق سلام نهائي ومستدام في هاتين المنطقتين، ولا يهمه توقفت الحرب أم لا.. وهذه عقبة حقيقة لا يمكن لأي كان إنكار وجودها.
ثالثاً: طبيعة عمل الآلية رفيعة المستوى ومنهجها في إدارة التفاوض عليه ملاحظات عديدة، في مقدمتها أن الآلية غير حازمة في بعض الشؤون خاصة المتعلقة بأجندة التفاوض، وتمد حبال الصبر أكثر مما ينبغي، ويبدو أن وجود المبعوثين الدوليين «الأمريكي والنرويجي والأوروبي» الترويكا الغربية وممثلي المنظمات الدولية والإقليمية، يربك الوساطة بالضغوط التي تمارس عليها، كما أن الوساطة نفسها لم تقم ببعض المتعارف عليه في الوساطات مثل تقديم مقترحات وقيادة العملية التوفيقية بين الأطراف وحسم النقاط نقطة نقطة، ويقول كثير من المتابعين إن سكرتارية الوساطة التي تقوم بالأعمال التنفيذية والتفصيلية الدقيقة تتحكم في تدفق المعلومات والبيانات، وترسم الصورة المطلوبة التي يُراد لها أن تصل إلى قيادة الآلية رفيعة المستوى التي في الغالب لا تنشغل بالتفاصيل الدقيقة، وهناك ملاحظة صغيرة قالتها شخصية رفيعة موجودة في مقر التفاوض: «يبدو أن المبعوثين وكبار الوسطاء لا يقرأون الملفات والأوراق التي تقدم إليهم، إما يحولونها لآخرين أو يتلقون تلخيصاً مخلاً وغير دقيق عنها».
«نواصل».
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة