الخلاف السُّوداني المصري حول مثلث حلايب منذ العام 1958، غطّى بأبعاده السِّياسيَّة والإعلاميَّة الوجه الآخر منه، المُتعلِّق بالنشاطات التّعدينية ومُحاولات الجانب المصري استغلال الموارد الطبيعيّة الموجودة في المثلث، سواء كانت مَعادن أو ثروة سمكية أو موجودات أُخرى في مياه البحر الأحمر الخَاضعة للسِّيادة السُّودانية، فالشكوى التي قدّمها السُّودان للأمم المُتّحدة بعد يناير 1958 وتُجدّد سنوياً حتى اليوم، تُعتبر المرجع الرئيس عند النظر إلى التنازعات الموجودة بين البلدين، والتي ظلّ السُّودان يدعو فيها إلى نقطتين أساسيتين لإنهاء هذا الخلاف، إمّا التّفاوض الثنائي المُباشر أو اللجوء إلى التّحكيم الدولي، ويكون لكلِّ طرفٍ ما يُعضِّد حجّته من وثائق واتفاقيات دولية، وما هو مُتاحٌ ومَوجودٌ في والوثائق والخرائط المُعتمدة لدى الأمم المتحدة التي تعرف حدود السودان مع مصر وحدوده البحرية، وظَلّت القاهرة ترفض تماماً المُقترحين السودانيين .
هذا الخلاف الذي تفجّر في بحر الأسبوع الماضي، عندما طَرحت وزارة النفط والتعدين المصرية عَطاءً دُوليّاً للتنقيب عن النفط والمعادن في مناطق بالبحر الأحمر ومربعات تقع في منطقة حلايب، وتقوم شركة جنوب الوادي المصري بنشاطات تعدينية متنوِّعة في المنطقة، احتج السُّودان بشدة في بيانٍ صادرٍ عن وزير الدولة بوزارة النفط في الخرطوم، وتمّ نهاية الأسبوع الماضي (الخميس) استدعاء للسفير المصري بالخرطوم من وزارة الخارجية، وأُبلغ احتجاج السُّودان الرسمي ودعوة القاهرة لوقف الإعلان عن العطاء وإيقاف كل الإجراءات المُتعلِّقة به، لأنّ الأراضي والسواحل تُعتبر سُودانية، وهناك اتفاقٌ بين الجانبين لوقف أيِّ نشاطٍ في المنطقة المُتنازع عليها .
قبل الدخول في هذا الموضوع والمُستجدات التي ظَهرت في أجواءٍ ربما أراد الطرف المصري استغلال الأوضاع الحالية في السُّودان والقيام بإجراءات أخرى لفرض الأمر الواقع حالياً، وإمضاء كل الإجراءات كسُلطة احتلال قائمة في هذه المنطقة، يتعيّن إعطاء خلفية سريعة عن ما جرى في هذه المنطقة قبل عُقُودٍ، ففي العام 1954 قبل استقلال السودان من الاستعمار الثنائي الإنجليزي المصري، أُنشئت في مصر شركة حكومية مُهمّتها التنقيب والعمل في مجال المعادن في منطقة مثلث حلايب، وسُميت تلك الشركة (شركة علبة المصرية) على اسم جبل علبة القائم في منطقة حلايب في مُواجهة الساحل، ويفصل بينه وبين المدينة والبحر الأحمر سَهلٌ يمتد على مسافة تصل إلى (45) كيلو متراً تقريباً، وهو الجبل الذي عناه العمدة بطران زعيم قبيلة البشاريين عام 1958 عندما دخلت القُوّات، حلايب وطلبت منه السُّلطات المصرية أن يتجنّس ويُعطى الجنسية المصرية، فقال الشيخ والعمدة بطران للسُّلطات المصرية قولته المشهورة وهو يُشير بيده نحو الجبل: (إذا جبل علبة داك بقي مصري أنا نبقى مصري).
كان نشاط شركة علبة المصرية امتداداً للنشاط التعديني الذي باشرته مصر في المثلث في العشرية الثانية من القرن العشرين في العام 1915، عندما بدأت القاهرة في إعطاء التراخيص للشركات التي ترغب في العمل في مجال التعدين، وفي العام 1918 رفض الترخيص لشركة لا يوجد دليل قاطع على الجهة التي تتبع لها كانت تسمى (شركة شرق السودان) وقد سجّلت تلك الشرق لدى السُّلطات في الخرطوم آنذاك…! واستمر نشاط مصري في مجال الفوسفات في تلك المناطق، ويوجد ميناء قديم قد يعود إلى ما قبل 1958 في منطقة أبو رماد كانت تصدر منه شركة علبة الفوسفات والمنجنيز المُستخرج من منطقة حلايب .
ونظراً لأنّ السُّلطات السُّودانية عقب الاستقلال 1956م، وجّهت مذكرات للحكومة المصرية بشأن الحُدُود المُشتركة، ولم تكن القاهرة لديها في ذاك الأوان أيّة اعتراضات على الحدود مِمّا يعني اعترافها الكامل بتبعية المثلث حتى شلاتين للسيادة السُّودانية، لم تعر الخرطوم في ذلك الحين أيّة انتباهة لنشاط تعديني آخر غربي المنطقة في مناطق مهجورة في وادي العلاقي، حيث تمتد مناجم الذهب إلى داخل الحدود المصرية، وأقامت مصر في ذلك الوقت أكبر منجمٍ لاستخراج الذهب في أفريقيا (منجم السكري) للاستفادة من الذهب في مناطق وادي العلاقي الذي يعبر الحدود المصرية إلى داخل أراضيها، ولا تزال القُوّات المصرية تتواجد بكثافةٍ في المنطقة وداخل الأراضي السُّودانية في ولاية البحر الأحمر خارج منطقة حلايب وإلى جنوب الحدود المصرية داخل ولاية نهر النيل، وكثير من معدات المُعدِّنين السودانيين التي تمت مُصادرتها من السُّلطات المصرية من هذه المنطقة .
أما ما يتعلّق بالحدود البحرية، فالسُّودان اعترض على أيِّ نشاطات تتم في حدوده البحرية خاصّةً منطقة حلايب البحرية، ومنذ العام 2016 تُوجد اعتراضات ومُذكّرات سُودانية رُفعت للأمم المتحدة وللهيئة الدولية للبحار والمُحيطات، تعترض على الاتفاقية المصرية السعودية التي قَضَت بترسيم الحدود البحرية المصرية السعودية بعد تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير، وحجة السودان أنّ حُدوده البحرية مع جزيرتي تيران وصنافير السعوديتين حالياً، وقد أخفت كل من الرياض والقاهرة اتفاقهما بترسيم الحدود البحرية عن الخرطوم ولم تطّلعاها عليه، حتى وضعته الأمم المتحدة في مواقعها الإلكترونية، وجَرَت اتصالاتٌ مُكثّفةٌ بين كل الأطراف المُختلفة والأمم المتحدة في هذا الصدد .
نُواصِل غَدَاً ..
الصادق الرزيقي
صحيفة الصيحة