ما لا ينتبه له من يسيئون معاملة الخادمات هو أنهن لم يخترن هذه المهنة الصعبة إلا بسبب أحوال أهلهن المعيشية الصعبة، والقاعدة عندي هي أنه ما من شابة تختار الخدمة في البيوت إلا وهي شريفة، لأن طريق الرذيلة ببيع الشرف قصير وعائده المالي كبير، ويا ما اتخذت بعض من نسميهن «بنات عوائل» هذا الطريق لكسب المال لأغراض الفخفخة و«الاستعراض»، والشاهد هو أن الفقر هو الذي يجعل الناس يختارون مهنا مرهقة نفسيا أو جسديا، فمثلا لن تجد يوما ما حفار قبور يقول لك إنه اختار المهنة لأنه يعشقها، ولو قال ذلك فالقبر خسارة فيه، ومعظم الخادمات يعملن على بعد مئات أو آلاف الأميال من بيوت ذويهن، وبعضهن له أطفال وكلهن لهن آباء وأمهات وإخوة، وبالتالي لهن عواطف، ويكابدن الشوق خلال مكابدات العمل اليومي، وتخيل كيف يعتصر الحنين المشوب بالألم قلب خادمتك وهي ترى العيال من حولك والخالات والعمات والجيران يدخلون ويخرجون من بيتك، بينما تنهال عليها صيحات: جيبي العصير.. والشاي والقهوة… وين التمر يا خبلة؟
واعتقد أن أسوأ ما في مهنة الخادمة وجميع الأعمال اليدوية الرتيبة التي تخلو من التحديات، أو لا تتطلب مهارات عالية، أنها تجعل من يمارسها عصاميا في الغباء، أي أنه وكلما استمر في مزاولة المهنة كلما ضمرت وهزلت قدراته الذهنية، فمهارات الكنس «محفوظة» وغسل الملابس باليد او الغسالة الكهربائية عمل روتيني لا مجال فيه للتجديد والابتكار، وتنظيف الحمامات يتم بأسلوب واحد في روسيا والجزائر وبوليفيا، ولهذا تجد كثيرا من النساء ينتفن شعر رؤوسهن كلما بدر من الخادمة سلوك غبي أو لم تحسن التصرف.. فإذا قلت لخادمة عندما يرن جرس الباب لا تفتحي الباب (لأنك تعلم أن عيال الجيران المزعجين جاءوا يسألون عن الكرة التي سقطت في فناء بيتك للمرة الخامسة خلال أربع ساعات)، فالمرجح أنها لن تفتح الباب لأي طارق آخر من دون أمر مباشر منك بذلك.. وإذا قلت لخادمة: أعطيني زبادي وملعقة.. وفي اليوم التالي: أعطيني شوربة خضار وملعقة، فستأتيك بملعقة في اليوم الثالث إذا طلبت منها شريحة بطيخ، وليس مثل هذه التصرفات بالضرورة دليل غباء، بل قد تكون من باب سد الذرائع والأبواب التي تجيب الريح، وبالمقابل ستجد الخادمة المكلفة بانتظام بإعداد الطعام، قادرة على الإبداع والابتكار لأن الطبخ يتطلب مهارات متنوعة، لأن هناك طريقة خاصة لإعداد كل «أكلة».
وبداهة فإنني لا أقصد ان أقول إن الغباء هو الذي يجعل بعض النساء لا يصلحن للعمل إلا كخادمات، بل أقصد أن أقول إن طبيعة مهنة الخادمة هي التي تجعلها غبية بصورة تراكمية، وما يجعل معظم الخادمات يسئن التصرف هو أنهن يخشين اللوم والتعنيف والشتم والضرب، والشخص المتوتر الخائف يخطئ كثيرا ولا يتعلم من أخطائه، وبالمقابل، ففي أحيان كثيرة تكتشف عائلة ما أن «الخادمة الجديدة» لا تعرف كوعها من بوعها (اعترفت مرارا بأنني لا أعرف ما إذا كان عندي بوع أم لا)، ولكن إذا كان أهل البيت من النوع الذي لا يترك كل أمور البيت للخادمة، فإن الخادمة «الخام» تتحول إلى لهلوبة وشطورة لأنها تتعلم الأشياء من أصحاب الشأن على خير وجه، وتؤدي واجباتها «دون أن تجيب الكلام لنفسها».
وغدا بإذن الله أدق نواقيس الخطر على أمل ان يصحصح من يتفننون في إيذاء الخادمات باليد أو اللسان، وعندي حكايات يشيب لها الغراب عن انتقام الخادمات من أرباب وربات البيوت التي يتعرضن فيها للأذى.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]